لم تمنع رائحة الموت التي تعبق في أجوائها وتنبعث من تربتها وجذوعها وأوراقها، التي ارتوت من أجساد الموتى وبقايا أمتعة الضحايا المتناثرة في كل مكان والحبال والأجساد المعلقة على الأشجار السياح من زيارتها. حين تمشي في تلك الغابة اليابانية أوكيجاهارا.. أكثر الغابات رعبا على وجه الأرض، التي تعني “بحر الأشجار”، وهي فعلا أشبه ببحر متلاطم من قمم الأشجار السامقة وأغصانها المتشابكة التي تنتشر على مد البصر عند سفوح جبل فوجي المقدس، المغطى بالثلوج طوال العام، تحولت مع مر السنين إلى مظلة خضراء عملاقة حجبت أشعة الشمس عن القاع المعتم والساكن سكون المقابر، هناك ستنسى كل ما عرفته وشاهدته عن اليابان، لن تسمع إلا صوت أنفاسك فحتى الطيور والحيوانات لم تعد تعيش هناك وهربت من الغابة. في تلك الظلمة والسكون يأتي اليائسون لقتل أنفسهم وتتعدد الوسائل ولكن أشهرها الشنق بالحبال التي تعلو أغصانها أو التسميم بأخذ جرعة زائدة من المخدرات أو العقاقير، وينتحر فيها سنويا ما لا يقل عن ١٠٠ شخص. والانتحار في اليابان لا يعد عارا؛ لأن مقاتلي الساموراي القدماء كانوا يقدمون على غرز السيف في أحشائهم “السيبوكو” قبل أن يصل إليهم العدو. ولكن لماذا هذه الغابة بالذات؟ يقال، إن هناك سببين أحدهما مرتبط بتاريخ مؤلم لا يمكن أن ينساه الشعب الياباني وهو ممارسة قديمة قاسية وعديمة الرحمة تعرف بتقليد أوباستي، حيث كان اليابانيون يستدرجون المرضى والضعفاء وكبار السن من أفراد عائلاتهم إلى اوكيجاهارا لينبذوهم في تلك الغابة المظلمة والموحشة في أوقات المجاعات والكوارث لضمان العيش للبقية، فيموتون ببطء جوعا وبردا أو خوفا ورعبا ويقال إن البعض منهم كان يختصر طريق العذاب فيجمع أطراف ثيابه ويربطها معا كالحبل ليشنق نفسه على أقرب شجرة. كانوا يموتون وهم في قمة الغضب والشعور بالظلم ولهذا السبب بالذات، يؤمن كثير من اليابانيين بأن أرواح أولئك المنبوذين الغاضبين ما زالت تجوب الغابة حتى اليوم على الرغم من مرور قرون طويلة على موتهم، في هيئة أشباح تدعى “يوري”. أما السبب الآخر فيرجعونه إلى رواية مأساوية أصدرها الكاتب الياباني “سيكو ماتسومو” في عام 1960م “Kuroi Jukai” التي تنتهي بأن يقوم العاشق الحزين بإنهاء حياته في بحر الأشجار. وكان لذلك تأثير كبير في الثقافة اليابانية. وكذلك “دليل الانتحار الكامل” الذي يصف أوكيجاهارا كأفضل مكان للموت. وقد تم العثور على هذا الكتاب بين الأغراض المهجورة لزوار الغابة. يمشط مجموعة من المتطوعين الغابة بين فترة وأخرى لعلهم يستطيعون إنقاذ روح بشر أو على الأقل حمل رفاته.