د. هشام بشير* ما زالت الدولة الليبية تبحث عن طوق نجاة للخروج من أزمتها المستعصية بسبب تنامي الخلاف بين قوى الداخل وتزايد مطامع قوى الخارج، رغم مرور حوالى خمس سنوات على سقوط نظام معمر القذافي. الأحداث المتوالية كشفت بما لا يدع مجالاً للشك أن ليبيا ستظل غارقة في مستنقع من الأزمات الداخلية بما يحول دون تحقيق الاستقرار المأمول على المدى القصير، خاصة بعد اقتحام المجلس الأعلى للدولة في طرابلس من قبل قوات تابعة لخليفة الغويل، رئيس الحكومة السابقة المنبثقة عن المؤتمر الوطني العام في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، حيث أعلن الغويل عن عودة حكومته لمباشرة أعمالها مرة أخرى من العاصمة طرابلس، بعد غيابها عن المشهد السياسي منذ مارس/آذار الماضي، وهو ما فجر أزمة جديدة غير متوقعة تضاف إلى الأزمات المتراكمة للدولة الليبية، ما دعا فايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني إلى تأكيد أن المؤسسة الأمنية سوف تتعامل مع من اقتحم مقر المجلس الأعلى للدولة بمسؤولية تجنباً لإراقة الدماء، متعهداً بإنهاء ما وصفه ب التجاوز في حق الدولة الليبية بحزم وبقوة وبسلاح القانون، مؤكداً أن المسؤولية الوطنية تدعو الليبيين جميعاً عسكريين ومدنيين إلى وضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وتدعوهم لوحدة الصف ولم الشمل، لكي يستطيعوا مواجهة التحديات الكبيرة والمعقدة. وفي نفس السياق أعلن المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا جوناثان واينر رفض حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لاقتحام المجلس الأعلى مبدياً استعداد بلاده لمساعدة ودعم المؤسسات المنبثقة عن الاتفاق السياسي في القيام بأعمالها والمضي قدمًا لإنهاء معاناة الشعب الليبي، كما استنكر الاتحاد الأوروبي وكذلك المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر هذه الخطوة المفاجئة، حيث حذر الأخير من فوضى وانفلات أمني قد يعم أرجاء الدولة. وفي ظل استمرار الصراعات وانسداد الأفق السياسي بين الفرقاء الليبيين واعتمادهم في جل القرارات على ما تمليه الإرادات الدولية والإقليمية، لم يكن غريباً أن تتوالى الاجتماعات والتصريحات سواء الدولية أو الإقليمية لحل الأزمة الليبية، وكان من أبرزها اجتماع دول الجوار الليبي - التي تأسست بمبادرة من الجزائر عام 2014 - في عاصمة النيجر نيامي والذي عقد في التاسع عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وضم ممثلي مصر والجزائر وتونس والسودان وتشاد والنيجر، وتناول الاجتماع المخاطر الأمنية على دول المنطقة جراء استمرار تدهور الأوضاع في ليبيا، حيث اتفق المجتمعون على تنسيق جهود دول الجوار على المستوى الحدودي، كما أعلنت دول الجوار عن دعمها لاتفاق الصخيرات بالمغرب أواخر العام المنصرم كإطار وحيد لحل الأزمة السياسية، محذرةً من أي تدخل أجنبي في الشأن الليبي، داعيةً إلى عقد مؤتمر وطني شامل للمصالحة في ليبيا في أقرب وقت بمشاركة جميع أطياف المجتمع الليبي، في إطار المبادرة التي قدمها رئيس الحكومة فايز السراج أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن خلال القراءة المتأنية لبيان اجتماع دول الجوار، من الملاحظ أن البيان جاء متوازناً، حيث تحاشى الحديث بشكل صريح عن ضرورة تسليم المنشآت النفطية التي تقع تحت سيطرة المشير خليفة حفتر إلى المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، مطالباً فقط بضرورة الحفاظ على الموارد والثروات خاصة البترولية وتسخيرها لمصلحة الشعب الليبي، مؤكداً أهمية إلغاء الحظر على تجميد الأموال الليبية في الخارج وتخصيصها لتلبية احتياجات أبناء الشعب الليبي الذي يعاني من تدهور الأحوال الاقتصادية في الوقت الراهن. وهكذا أبانت التطورات أنه على الرغم من تعدد المحاولات الدولية والإقليمية لحلحلة الأزمة الليبية المعقدة، إلا أن تطورات الداخل الليبي تعيق إمكانية نجاح أي توافق خاصة بعد قيام حكومة خليفة الغويل السابقة باقتحام مقار المجلس - كما سبق الإشارة إليها- وسط أنباء عن قيام الغويل بمشاورات مع حكومة عبدالله الثني السابقة لتشكيل حكومة ليبية جديدة بسبب فشل فايز السراج في تشكيل حكومته للمرة الثالثة حتى الآن، على حسب ما جاء في تصريحات المؤيدين من الجانبين، يضاف إلى السابق التأزم الجديد في العلاقة بين المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني ومجلس النواب الداعم للمشير خليفة حفتر، بعد أن شارك فايز السراج فيما يعرف بالملتقى السادس لضباط الجيش في طرابلس يوم الأربعاء 19 أكتوبر/تشرين الأول الجاري وصدور بيان ختامي عن الملتقى جاء فيه عبارة خليفة مجرم حرب، ورغم قيام المجلس الرئاسي بحذف الكلمات المسيئة لحفتر من البيان، إلا أن المجلس العسكري لمدينة مصراتة (مدينة المال والنفوذ السياسي) أعلن عن دعمه الكامل لكل ما ورد في البيان الختامي، وهو ما أسهم في استمرار التباعد بين مجلس النواب الليبي والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني. أما عن مستقبل الأزمة في ليبيا فيبدو أن الأزمة الليبية مرشحة لمزيد من التعقيد والتشابك، خاصة في ضوء افتقار فرقاء الداخل في ليبيا إلى الشعور بالمسؤولية والحس الوطني وتغليب النعرات القبلية والمصالح الضيقة على حساب الوطن مع تكالب القوى الدولية على الجسد المنهك للدولة الليبية، فالسفيرة الفرنسية الجديدة بريجيت كورمي -وبعد وصولها مباشرة - اجتمعت بفايز السراج وكذلك المفوض بمهام وزير الدفاع بحكومة الوفاق الوطني العقيد المهدي البرغثي، في الوقت الذي بدا فيه الدب الروسي الحليف السابق لليبيا مستعداً للعودة مجدداً إلى مناطق نفوذه السابقة في الشرق الأوسط، خاصة سوريا وليبيا التي ينطلق فيها الموقف الروسي من تأييد اتفاق الصخيرات بالمغرب، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية التموضع السياسي للمشير خليفة حفتر في الاتفاق السياسي، ولذا لم يكن غريباً أن يقوم حفتر بأكثر من زيارة معلنة وغير معلنة لروسيا خلال الشهور القليلة المنصرمة، وما يهمنا هنا الاشارة إلى أن دخول روسيا على خط الأزمة الليبية قد يكون عائقاً جديداً على الأرجح في حلحلة الأزمة المعقدة في ظل تضارب الرؤى بين مصالح روسيا والولايات المتحدة التي أعلنت السبت 22 أكتوبر/تشرين الأول عن وصول السفينة الحربية سان انطونيو إلى السواحل الليبية حاملةً على متنها حوالى سبعمئة من قوات المارينز وأربع مروحيات مقاتلة، في الوقت الذي أعلن فيه الجيش الألماني في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري أنَّه سيرسل قوات ألمانية من الضفادع البشرية إلى السواحل الليبية لمنع تهريب السلاح إلى مسلحي داعش، مضيفاً أن قوات النخبة من الضفادع البحرية الألمانية ستجري عمليات تفتيش إجباري للسفن المشكوك فيها، في حال امتناع طواقمها طوعاً عن ذلك، والتطورات السابقة تكشف بجلاء أن ليبيا ستظل رهينة مطامع فرقاء الخارج وانسداد الأفق السياسي لفرقاء الداخل. مدير مركز الدراسات الاستراتيجيةوالاقتصادية بجامعة بني سويف