إن أكثر ما يتطلبه العمل في المجال الإعلامي المرئي اليوم هو الالتزام “بالمهنية” وعدم التنازل عنها، ولا يمكن أن يكون الشكل والمظهر والوسامة بديلة عنها، التي يركز عليها “بعض مذيعي اليوم”، ولن يكون الطريق إلى المهنية إلا عبر قنطرة “الثقافة” التي يمتلكها المذيع أو المقدِّم، فهي ما يصنع “كاريزما” الحضور والتقبُّل، فحينما يكون المذيع أو المقدم مثقفاً؛ فمن المؤكد أنه سيكون احترافياً مهنياً، وبالتالي سيجد “القبول” له عند المتلقي أو المُشاهد، الذي أصبح على قدر كافٍ لتحليل وتقبُّل أو رفض ما يشاهده أو يسمعه عبر الشاشة، إلا أن الملاحظ أن مهنة المذيع أو المقدم أصبحت “هواية”، ولذلك أصبحنا نشاهد “الممثل يشتغل مذيعاً” و”المذيع يمثل مسلسلات”، وقد نرى أحدهما مستقبلاً يغني! وأصبحت مهمة تقديم برنامج سهلة، فيجلس إلى “طاولة مستديرة أو مربعة” ويُحضِر ضيفين أو أكثر من تيارات مختلفة من التيارات التي صنعها “الكتبة”، ثم يطرح محاور قضايا دينية، اجتماعية، سياسية ويتركهم يتصارعون أمام المشاهدين الذي لا يدرون ماذا يريد كل من الضيفين الوصول إليه، وتكون النتيجة مزيداً من “الاحتقان المجتمعي” وزيادة في الخلاف والاختلاف حول قضايا اجتماعية، بعضها قد تكون مدفونة لكن الرغبة في “كسب جماهيرية” أو كما يقال “متابعين” تدفع بهذا المذيع أو ذاك إلى جلب كل قضية يعلم مسبقاً أنه لا اتفاق حولها، مع أن الدولة -رعاها الله- أدرى منه ومن ضيوف برنامجه بمصلحة المجتمع فيها، وفي تناولها والتعاطي معها بحكمة وقيادة وإدارة. هذا “كوم”، لكن الكوم الآخر، وأنا أقول (كوم) ولا أقول جانباً آخر، لأن الفضائيات الخاصة اليوم بالكوم، وبالتالي فالمذيعون الجدد بالكوم، أقول بعضهم لم يحترفوا مهنتهم كما كان مذيعو الزمن الجميل زمن الطيبين الذين كان تركيزهم على اللغة والثقافة والمصداقية والحضور، بينما بعض المذيعين الجدد، وأقول (بعض) لأن هناك مذيعين جيدين متمرسين في عملهم الإعلامي، بعضهم ينسى مسؤوليته الإعلامية، خاصة مذيعي القنوات التجارية، لأنهم يفهمون مساحة الحرية خطأ التي يجدونها فيها، فأصبح بعضهم لا يتورَّع عن الدفع بوجهات نظره أو الاصطفاف مع الضيف الذي يشاركه رؤاه، بل بعض المذيعين لبرامج لا يستضيفون إلا الضيوف الذين يسيرون في فلك أفكارهم وبرامجهم، والمهنية تقول حتى لو كان رأيك مخالفاً فأنت كمقدم أو مذيع سواء مذيعاً أو مقدم نشرات أخبار، أو برامج منوعة كالبرامج الحوارية “التوك شو” يجب أن تلزم الحياد، أو تتبنَّى الرأي المجتمعي الصحيح على أضعف الأحوال، لأن مهمة الإعلام ووظيفته صناعة “الوعي المجتمعي” وتشكيله عند المتلقين، وتقريب المسافات، وليس زيادة “الاحتقان المجتمعي والتباعد” عند أبناء المجتمع، لكن ما نراه اليوم هو الخروج على المهنية “حين يلجأ مذيع ما إلى استفزاز المتلقين أو الجمهور الذي يعلم مسبقاً أنه يخالفه توجهاته، فيغفل أصحاب وجهات النظر الأخرى المخالفين له، أو عدم استضافتهم البتة، فضلاً عن أن مذيع اليوم قد يقدم خبراً يقطر بالدماء والعنف وهو يبتسم، وقد يصطنع ضحكة صفراء وهو ينوي تقديم سؤال يرى أنه سيحرج ضيفه كما فعل أحدهم قريباً مع مدير إدارة، وبعضهم قد يصرخ في وجه المشاهدين كصاحبنا الذي عُرف بصرخة “اصحوا يا سعوديين”، فهل هذه مهنية الإعلامي المذيع؟! ثم إن الأهم من ذلك هل تظنون أن ذلك سيقرِّب وجهات النظر عند أبناء المجتمع؟ أم سيزيد من الاحتقان، ويزيد من اشتعال القضية خلافاً واختلافاً؟!