سلمان عز الدين يحلو لنا، عادة، أن نصور التاريخ كمعلم وقور بعصاً غليظة، وهو إن بدا قاسياً فلا يمنح دروسه الذهبية إلا مقابل أثمان باهظة، فإن حكمته تنتصر في النهاية، وذلك عندما يصل بنا إلى الأجوبة الحاسمة والحلول الناجعة، كاشفاً لنا عما كان خفياً عن أفهامنا. يملك عشاق هذه الصورة الرمزية بضعة أمثلة لا يملون تكرارها: فالتاريخ لقّن اليابان الإمبراطورية درساً قاسياً، إذ كلفها هزيمة ثقيلة في الحرب العالمية الثانية، وحطم (أناها) القومية المتضخمة وبدد جنون عظمتها، ولكنه في النهاية منحها ما هي عليه اليوم: دولة صناعية متقدمة تغزو منتجاتها أسواق العالم، وتشكل تقنيتها حلماً لبقية الشعوب. كذلك فعل التاريخ بالألمان، إذ أدمتهم الحرب وجوعتهم وقسمت بلادهم، قبل أن يحولهم التاريخ، إثر نهاية امتحانه، إلى طليعة أوروبا وأرض الأحلام للملايين حول العالم. هكذا.. وكأن التاريخ قوة ميتافيزيقية مفارقة، تمضي قدماً غير عابئة بأفعال البشر أو إراداتهم أو رغباتهم، تفعل فعلها فيما البشر لاهون غافلون، يصحون فجأة وإذا ب الدروس التاريخية قد أينعت وصارت جاهزة للقطاف. يزدهر هذا الفهم اليوم فيما عالمنا العربي يواجه طوفاناً يهدد الحدود والهويات والشعوب، غير أن المؤمنين بالتاريخ يهدّئون من روعنا، ويطمئنوننا، باسم معلمهم الجليل، بأن ما نشهده هو تكلفة ضرورية وثمن مستحق، وإذا كنا نركب الآن سفينة تائهة وسط عواصف عاتية، فإن المرسى سيكون حتماً على بر الأمان، بل إن بعضهم يتبرع بوصف هذا البر الموعود وتعداد خيراته. ولكن إذا قبلنا بهذه الصورة الكاريكاتيرية للشيخ ذي اللحية البيضاء الذي اسمه التاريخ، فإن مروجيها مطالبون بإكمالها عبر استحضار نصفها الآخر، النصف الذي يتم تجاهله غالباً، وهو أن أي معلم، ومهما بلغ من الحكمة والبراعة، لا بد له، كي ينجح في مهمته، من تلاميذ نجباء مثابرين ومنتبهين، يقدرون على التقاط الإشارات، وعلى استخلاص النتائج من المقدمات.. على الربط والتحليل والاستقراء. فماذا إذا كان التلاميذ لا يحضرون الفصول الدراسية أصلاً، ثم يقوّلون معلمهم ما لم يقله، ويفبركون باسمه استنتاجات متعجلة وخلاصات ساذجة؟! ثمة اليوم مثقفون نخبويون أنطقوا التاريخ، حتى قبل أن يكمل درسه، هذه النتيجة الحاسمة: إن العيب يكمن في الجماهير، الشعوب، العامة.. المكبلة بثقافة ماضوية متخلفة عصية على التغيير، وإن خطأ الحكومات ونخبها الثقافية (إذا كان لها من خطأ) فهو أنها كانت رخوة ومتساهلة أكثر مما يجب، ولم تعمد إلى اجتثاث هذه الثقافة المتخلفة وإبدالها بثقافة حديثة (ثقافة جاهزة في خزانة النخب التحديثية وكانت تنتظر قراراً فقط!). إدانة الناس هي اللازمة، وهي القاسم المشترك بين كتابات نخبوية كثيرة تتصدى لتحليل ما يحدث وتفسيره. بل إن كاتباً صحفياً، علمانياً ويسارياً وطليعياً، استحضر من مستودعات التراث مصطلح الغوغاء متسائلاً: كيف لهذا القطيع أن يقود حراكاً تاريخياً؟. كاتب آخر رأى أن الجماهير أحبطت كل محاولات التحديث، وأن المسألة كانت تحتاج إلى ثورة من نوع آخر، ثورة من فوق بالطبع. وثالث استنتج أن الجماهير لم تكن تستحق التنعم بثمرات التكنولوجيا الحديثة ولا بالانفتاح على العالم قبل أن يتم ترويضها جيداً. مفكرون أكثر رزانة وأثقل وزناً، راحوا يرطنون بمصطلحات ثقيلة وجمل عويصة، مستعرضين براعتهم في الغموض والإبهام، غير أن ما قالوه في النهاية لم يبتعد كثيراً عن هذه الاستنتاجات: فالمسؤولية تقع على عاتق الثقافة الشعبية، والتقاليد البالية، والعقل الغيبي، والعلاقات الاجتماعية المتخلفة، والتعلق بالتراث.. وهي كلها، بالطبع، تحيل إلى الجماهير لا إلى النخب ومن يقف وراءها. أدباء وفنانون وكتاب دراما.. باتوا يستمتعون بالإقامة في زمن قنديل أم هاشم، حيث المثقف التنويري المسكين محاصر بالعامة الجاهلة الغبية المحصنة ضد العلم والتعليم والثقافة. لا كلمة، إذاً، عن دوائر القرار والنخب الثقافية الدائرة في فلكها. لا مسؤولية تقع على سياساتها قصيرة النظر، وشعاراتها الفارغة، وحداثتها الزائفة، وتحديثها القسري الأجوف. غير أن الكلام هنا لا يساير أولئك المغرمين ب الأصالة، والذين يقدسون كل ما هو شعبي، حتى يصل الأمر ببعضهم إلى اعتبار أن في الأمثال الشعبية من الحكمة والعمق ما يضاهي الفلسفة اليونانية، وأن موسيقى الربابة تضاهي موسيقى بيتهوفن. منذ عقود، ازدهرت نظرية فكرية تقول بوجود بنية راسخة للعقل العربي تمت صياغتها منذ عصر التدوين، وهذه البنية تتحمل مسؤولية الكثير من مظاهر الحالة العربية المتردية، إذ تجعل المجتمعات العربية عصية على الحداثة. وقد تناسلت من هذه النظرية الكثير من الكليشيهات التي لم تخل من طرافة: لا يمكننا الخروج من أزمة الكتاب قبل أن نغير في البنية العميقة للمجتمع حيث تسود الأمية وتقاليد الشفاهة المتخلفة، ولا نستطيع إصدار صحف حقيقية قابلة للقراءة إلا بعد سلسلة طويلة من الإصلاحات الجذرية في الوعي الجمعي، وصولاً إلى ترسيخ تقليد شراء الصحيفة في سلوك الإنسان العادي، ولا حل لأزمة السينما إلا بعد إزالة المعوقات الأبستمولوجية والسيكولوجية التي تسبب عزوف الناس عن السينما وتجعلهم يتسمرون أمام التلفزيون. بناء على هذا الهذر الثقافي، لم يعد مهماً أن نبني صالات سينما صالحة للاستخدام البشري، أو إصلاح علب الكرتون التي نسميها مسارح، ولم يعد ذا جدوى أن نصدر كتباً تعني أحداً، أو نقيم ندوات تحت عناوين لها أدنى علاقة بالحياة... هكذا أهملنا كل هذه التفاصيل حتى غدت تلالاً غفونا في ظلها في انتظار تغيير شامل. ليس هناك ما هو أسهل من تعليق الفشل على شماعات من عيار ثقيل: التجربة التاريخية، والبنية العميقة، والذهنية المستقرة، واللاوعي الجمعي... وباختيارنا لأعداء على هيئة طواحين هواء، فقد حددنا سلفاً أي نوع من المعارك سوف نخوض: معارك دونكيشوتية محكومة باليأس اللذيذ الذي يسم عادة معارك الأبطال المأساويين، وهم يواجهون قوى قدرية فوق بشرية. واليوم تعود هذه النظرية ومتفرعاتها، لا لتبرر الفشل وحسب، بل لتقدم الدعم لإدانة الناس. ولكن مهلاً.. إذا كان التاريخ قد أنبأنا بأن العيب في الجماهير نفسها، فلا ندري ما العمل الذي ينصحنا به هذا المعلم؟