أثارت مطالبة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بتعديل معاهدة لوزان الموقعة في 24 يوليو (تموز) عام 1923 والتي تم بمقتضاها ترسيم حدود تركيا الحديثة الجدل في الخارج فضلا عن تفجير نقاشات حادة في الداخل. ولم تكن تصريحات إردوغان، التي أدلى بها الأربعاء الماضي، هي الأولى حول المعاهدة التي وقعت بعد الحرب العالمية الأولى، وإنما تكررت تصريحاته حولها وحول مضمونها مرات عدة. وربما زاد من الجدل حول تصريحاته الظروف الراهنة في المنطقة وارتباطها بالملفين السوري والعراقي، فضلا عن حالة التوجس بين تركيا واليونان والتوتر بينهما في بحر إيجة الذي يتصاعد بين الحين والآخر. وفي نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي انتقد إردوغان المعاهدة قائلا إن «خصوم تركيا» أجبروها على توقيع معاهدة سيفر عام 1919 وتوقيع معاهدة لوزان 1923، وبسبب ذلك تخلت تركيا لليونان عن جزر في بحر إيجة «رغم أن الصرخة من هناك تسمع على الشواطئ التركية.. هناك توجد مساجدنا ومقدساتنا. هذه المشكلة ظهرت بسبب الذين جلسوا خلف طاولة المفاوضات في لوزان ولم يتمكنوا من الدفاع عن حقوقنا»، في إشارة إلى مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك والرئيس الراحل عصمت أينونو ورفاقهما. والأربعاء الماضي عاد إردوغان وتساءل: «في لوزان، أعطينا جزرًا قريبة إلى حد أن صوتكم هنا يمكن سماعه هناك. هل هذا نصر؟». وأحدث تشكيك إردوغان في معاهدة لوزان، التي اعترفت بنظام مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، ردود فعل مختلفة بين أنصاره ومعارضيه. ويعتبر مؤيدو إردوغان أن تصريحاته هي تذكير بأن تركيا الحالية ليست سوى جزء من أراض أوسع كانت في الماضي تشكّل السلطنة العثمانية، في حين رأى فيها معارضوه انحرافًا خطيرًا باتجاه فكر عثماني جديد. وفي أوج توسّعها كانت السلطنة العثمانية تسيطر على أراض تمتد من أفريقيا إلى المشرق العربي إلى البلقان. وكانت معاهدة لوزان، هي آخر اتفاق يوقع مع بلد هزم في الحرب العالمية الأولى. ورسمت الحدود الحالية لدول البحر المتوسط حتى إيران بعد تفكك السلطنة العثمانية. ورغم أن المعاهدة تعد أفضل من معاهدة سيفر 1919، التي جعلت أراضي تركيا تقتصر على نواحي إسطنبول وقسم من الأناضول، فإنها كرست خسارة كامل جزر بحر إيجة، باستثناء جوسيدا (ايمروز) وبوزكادا (تينيدوس)، لمصلحة اليونان. وعلى الفور جاء رد رئيس وزراء اليونان ألكسيس تسيبراس بقوله «إن التشكيك في معاهدة لوزان أمر خطير على العلاقات بين بلدينا، وأيضًا بشكل أوسع على المنطقة». وقلل وزير الشؤون الأوروبية اليوناني نيكوس كسيداكيس من تأثير تصريحات إردوغان قائلا: «إن التصريحات النارية لإردوغان باتت أمرًا معتادًا». ورأى أنها قد تعود إلى أن إردوغان «يواجه ضغطا داخليًا قويا» بعد محاولة الانقلاب في 15 يوليو الماضي والمشاكل مع جارتيه العراق وسوريا. والتقطت صحيفة «تريبونيه» اليونانية تصريح إردوغان في مدينة ريزه شمال شرقي تركيا الأسبوع الماضي، الذي قال فيه «إن تركيا مسؤولة بالإضافة إلى 79 مليون مواطن تركي، عن مئات المواطنين الذين لها معهم روابط تاريخية وثقافية في المنطقة الجغرافية» وفسرته بأنه يكشف عن أهداف توسعية تشمل تراقيا الغربية. وقالت الصحيفة إن القصد من كلمة إردوغان هو الحديث عن تراقيا الغربية، لافتة الانتباه إلى جديّة تركيا إلى حد كبير في هذا الصدد. وأوضحت الصحيفة أن تركيا تجهّز لهذا المناخ، إذ قالت: «سواء أعجبكم الأمر أم لم يعجبكم إلا أن تركيا تجهّز لهذا المناخ». وشاركت الصحيفة خريطة تدّعي من خلالها أن الأهداف التوسعية لتركيا تشمل بالإضافة إلى تراقيا الغربية، مدنا من سوريا والعراق، كالموصل وحلب. وتراقيا الغربية هي المنطقة الجغرافية والتاريخية في اليونان، التي تقع بين نهري نيستوس وماريتسا في شمال شرقي البلاد، جنبا إلى جنب مع إقليمي مقدونيا، إبيروس، ويُشار إليها بشكل غير رسمي باسم «شمال اليونان». لكن إردوغان أكد مرارا عدم وجود أي أهداف توسعية لبلاده في العمليات التي تقوم بها خارج الحدود بغرض مواجهة الإرهاب، لافتا إلى أن الهدف من العمليات التي تقوم بها القوات التركية هو الحفاظ على أمن حدود البلاد مع كل من سوريا والعراق، قائلا: إن الموصل سكانها عرب، وستبقى عربية، وكذلك جرابلس السورية، مؤكدا أن سبب رفض بعض الجهات للوجود التركي في الموصل يعود لكون تركيا ترغب في عدم حدوث صراع مذهبي هناك. وقال أرشد هورموزلو كبير مستشاري الرئيس التركي السابق عبد الله غل لشؤون الشرق الأوسط إن وحدة الأراضي العراقية مهمة لتركيا، وتركيا ليس لها أطماع في أراضي أي دولة لكنها تمتلك الحق في القضاء على التهديدات الإرهابية الموجهة ضدها، بموجب الاتفاقيات الدولية. واعتبر في تعليق لـ«الشرق الأوسط» أن رد فعل السلطات العراقية حول وجود قوات تركية في معسكر بعشيقة «ليس في محله». ويقول خبراء إنه من المنظور التركي تبدو الموصل ضمانة لمواجهة الطموحات الكردية. ويبدو أن محافظة نينوى، بمساحتها ومواردها وتركيبتها الديموغرافية هي السد الذي يمكن أن يمنع الاتصال الفعال بين كردستان العراق والمواقع الكردية في سوريا التي تخوض تركيا عملية عسكرية فيها لإبعادهم عن حدودها. ويعتقد الخبراء أن الوجود العسكري الإيراني الصريح في تكريت هو أحد العوامل التي تقلق تركيا وتدفعها للمطالبة بالوجود في عملية تحرير الموصل مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا لا تفكر على الإطلاق في اقتطاع أراض من العراق أو سوريا وإنما تريد تأمين بقاء سكان هذه المناطق بتركيبتهم الديموغرافية دون تغيير ولذلك قامت بتدريب عناصر من العرب السنة وأصرت على مشاركتهم في معركة الموصل. وكانت تركيا اتخذت قرارا بالقيام بعملية درع الفرات في مدينة جرابلس السورية، التي انطلقت في 24 أغسطس (آب) الماضي بعد تعرض حدودها لقصف من الجانب السوري قام به تنظيم داعش الإرهابي لأكثر من مرة، وكذلك أرسلت جنودها إلى الموصل فيما تقول إنه بطلب من رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي كما ظهر في تسجيل مصور، وذلك بهدف تدريب المتطوعين ضد تنظيم داعش. وجاءت تصريحات إردوغان الأخيرة معاكسة لما كان صرّح به في 24 يوليو الماضي، خلال الاحتفال بالذكرى 93 لمعاهدة لوزان، حين أشاد بـ«وثيقة مؤسسة للجمهورية» ووصف إبرامها بـ«نصر الشعب بفضل إيمانه وشجاعته وتضحيته». لكن بعد شهرين تغيرت اللهجة، وبلغ الأمر بإردوغان حدًا قال معه إن «من جلسوا على طاولة المفاوضات في لوزان لم يبرموا أفضل الاتفاقيات». وكان إردوغان يستهدف بذلك عصمت أينونو أبرز مساعدي أتاتورك وخليفته في رئاسة الجمهورية، الذي يجله العلمانيون الأتراك إلى اليوم. وأضاف إردوغان بتأثر: «واليوم نحن نعاني» آثار ذلك. واعتبر ايكان أردمير، من مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية، ومقرّها واشنطن، أن هذا «الانقلاب» في موقف الرئيس التركي يشير إلى تفتّت شعار الوحدة الوطنية الذي رفعه إردوغان إثر الانقلاب الفاشل منتصف يوليو الماضي، خصوصًا مع المعسكر العلماني. وقال أردمير للوكالة الفرنسية للأنباء: «الآن وقد استعاد الرئيس التركي سيطرته التامة على البلاد بأسرها، شعر أنه في وضع مريح يمكنه من العودة إلى خطابه (المعادي) للجمهورية». ولدت هذه التصريحات غضبا داخليا عبر عنه بلهجة أشد كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك وهو أكبر أحزاب المعارضة في تركيا الآن، قائلا: «إن تصريحات إردوغان تعتبر خيانة للتاريخ». وقال مخاطبا الرئيس التركي: «لا تنس أنك تجلس على هذا الكرسي (كرسي رئاسة الجمهورية) بفضل لوزان». واعتبر خيري أينونو، حفيد عصمت أينونو، ورئيس بلدية أحد أحياء إسطنبول، أن وجود «الجمهورية التركية» دليل بحدّ ذاته على أن معاهدة لوزان كانت نجاحًا، «وما عدا ذلك ليس سوى لغو». بينما اعتبر الكتاب الموالون لإردوغان ومنهم يوسف قبلان، الكاتب بصحيفة «يني شفق» المقربة من الحكومة وإردوغان، أن معاهدة لوزان وقعت «صك وفاة» تركيا. وفي رأي خبراء أن كلام إردوغان عن جزر بحر إيجة قصد به تصويب الوجهة نحو الموصل. مستندين في ذلك إلى تصريحات المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم إردوغان، التي تتابعت في الفترة الأخيرة عن الحق التاريخي لتركيا في الموصل، ومن ضمنها كركوك. ويستدل المسؤولون الأتراك ومعهم بعض المؤرخين في تركيا على ذلك بالقول إن اتفاقية 1926 بين تركيا وبريطانيا والعراق جعلت تركيا تتخلى عن ولاية الموصل في مقابل بقاء العراق دولة موحدة، وإن لتركيا حقوقا في الموصل ونفط شمال العراق وإنها حصلت على بعض هذه الحقوق في عهد الرئيس الراحل تورجوت أوزال بموجب معاهدة 1926 لكنها لم تواصل المطالبة بحقوقها. وعشية حرب الخليج الثانية في عام 1991، كان الرئيس التركي تورجوت أوزال يقول إنه إذا كان صدام حسين يقول إن الكويت محافظة عراقية، فإن العراق كله كان تابعًا لتركيا. وطالب رئيس حكومته يلديريم أكبولوت ورئيس أركان الجيش نجيب تورومتاي بتجهيز الجيش التركي لدخول شمال العراق واحتلاله وإقامة فيدرالية تركية مع شمال العراق. لكنّهما عارضا الفكرة. وفي عام 1994 تحدث الرئيس التركي سليمان ديميريل عن ضرورة تعديل خط الحدود التركية العراقية لأسباب أمنية، وأشار إلى الموصل على أنها «تابعة لتركيا»، كما قال وزير الخارجية التركي في عام 2004 (رئيس الجمهورية السابق عبد الله غل) إنه إذا تقسّم العراق، فإن لتركيا حقوقًا تنجم عن ذلك، في إشارة إلى الموصل. وعندما أقر النظام الفيدرالي في العراق، قال غل: «لقد سلّمنا الموصل إلى عراق موحد»، ما يعني أنه بما أن العراق لم يعد موحدا، فإن لتركيا الحق في استعادة الموصل. ويفسر محللون إصرار تركيا على المشاركة في عملية الموصل بعد أن دخلت شمال سوريا لمحاربة تنظيم داعش ووقف تمدد حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكردي على حدودها، بأنه يرجع إلى سعيها لمنع مقاتلين أكراد من حزب العمال الكردستاني في عملية الموصل ومنع نشوء نقطة تمركز لهم في سنجار كما حدث في جبال قنديل شمال العراق وحتى لا يؤسس ممرا بريا بين العراق وسوريا لعناصره. ويعتقد المحللون أن رهان أنقرة على أن المتغيرات الكبرى، ومنها إعادة ترسيم الحدود الجغرافية أو حدود مناطق النفوذ في الشرق الأوسط والعالم، لا تأتي إلا بعد حروب كبرى وانهيار الدول المركزية. ومنطقة الشرق الأوسط تشهد اليوم، ومنذ سنوات، حالة شبيهة بذلك مفتوحة على كل الاحتمالات وأنه من هنا يأتي إصرار بغداد على عدم مشاركة تركيا في عملية الموصل ضد «داعش» لأن الحكومة العراقية استشفت من تصريحات إردوغان أن تركيا ربما لا تحترم الاتفاقيات التي تُوقّعها ولا تعترف بما رُسم من حدود، وهي تنظر إليها على أنها غير ثابتة وغير نهائية وتنتظر الفرص دائمًا لتغييرها من سوريا إلى الموصل وصولاً إلى بحر إيجة، بدليل أنها تسعى إلى التخلص من معاهدة لوزان.