ليس هناك أصدق من (الشارع) في الحديث عن مدى حضارة الشعوب وأخلاقها. إن الشارع ميدان للتطبيق العملي للقوانين وللأخلاق. إن ما تشاهده من تخطيط وأرصفة ولوحات وإشارات وحركة سير وواجهات عمائر ومحلات تجارية وتشجير وحدائق ومقاهٍ وغيرها..ما هي إلا مخرجات عن تلك القوانين تم تطبيقها على الواقع..ثم إن سلوك الناس إزاء كل ذلك يخبرك بوضوح عن مدى رقيهم وتقدمهم وأخلاقهم والتزامهم وانضباطهم من جهة..وعن مدى حضور وأثر جهات التخطيط والرقابة ومدى غيابها من جهة أخرى..وكلما تشوهت صورة الشارع وانحدر سلوك الناس فيه كلما أدركت تردي التخطيط والقوانين والرقابة وانحسار الأخلاق وانحدار القيم. الآن يا سادة يا كرام..لو أننا تناولنا شوارعنا (حتّة حتّة) مظهراً وسلوكاً فماذا سنجد؟! إنها الفضائح (للأسف) في كل مكان..ودعونا نأخذ بعض الأمثلة من شارع واحد في مدينتي التي أسكن بها..جدة..وقطعاً لبعض التخرّصات والافتراضات سأقول بأنني من ( غزيّة ) وأتمنى أن ترشدَ غزيةُ لأرشد..ونحن جميعاً مقصرون وتحدث منا الأخطاء السلوكية بحق أنفسنا ومجتمعنا ووطننا ومدننا..لكن الخطأ الأكبر يقع من المخططين والمنفذين والمراقبين كل في مجاله. 1 البلديات والنظافة: من نظرة واحدة فاحصة للشارع تكتشف (تهاويل) مخزية تحكي التقصير المخجل من البلديات..والتواطؤ الواضح مع المخالفات..وربما..وأقول ربما..تستشف ما يجري من تحت الطاولة بين المراقبين وأصحاب المحلات وبين القيادات وشركات النظافة..فالمطعم القذر والعامل القذر والأكل الرديء وروائح وأبخرة الطعام والزيوت المحروقة والأرضيات المتسخة والفئران والصراصير والأزبال والأتربة والكراتين التي أمام ذلك المطعم أو تلك البوفية أو السوبر ماركت أو الحلاق أو الجزار..إلخ..تنبئك بأحد ثلاثة أشياء : إما أن المراقب أعمى..أو أنه غير واعٍ ولم يعتد في حياته على النظافة أصلاً حتى في منزله..أو قبض(المعلوم)من تلك المحلات مقابل صمته وتغاضيه..وحينها لن تهمه لا صحة المواطن ولا مظهر مدينته ولا وطنه..ويستحق أن يحاكم بتهمة الخيانة للوطن وليس تهمة الرشوة فقط. وهناك متهم آخر نوجه له تهمة التخلف وهو المواطن الذي اعتاد على(الوسخ والعفن) وقبل به وربما أسهم فيه. 2 البلديات والتخطيط : أعطوني شارعاً (تجارياً) واحداً في جدة..وفي غيرها من مدننا..رصيفه منظّم وموحد المواد والألوان ومتساوٍ وصالح للمشاة..ومناسب لذوي الاحتياجات الخاصة..وخالٍ من الحفر وأغطية الخزانات والصرف الصحي وأعمدة الإنارة والتشجير العشوائي..وسليم من التهشيم والتكسير ومن اختلاف المناسيب من حيث الانخفاض والارتفاع ومن وجود الحواجز والقواطع بين العمارات التي تجبرك على الهبوط للشارع ثم العودة للرصيف مرة أخرى..أبداً لن تجد.. وكأن من خطط المدن مجموعة من الأميين..أو مجموعة من الجهلاء المتخلفين حتى وإن حملوا شهادات الهندسة..أو مجموعة من الكسالى الذين تركوا ( الدرعى ترعى ) ( وكل من إيدو إلو ) كما يقول أخوتنا السوريون..وأصبح صاحب العمارة أو صاحب المحل هو من يتحكم في الرصيف ويفعل به ما يشاء..ثم لاحظوا معي واجهات العمائر والأسلاك والمواسير والمكيفات والأتربة والأصباغ والملصقات التي تغطيها..وواجهات المحلات ولوحاتها والنشاز فيها والأخطاء الإملائية والنحوية وكأن لغتنا(بنقالية معرَّبة)..ولاحظوا معي أيضاً كيف يتم حفر الشارع ودفنه مئات المرات..وكيف تتم سفلتته..لتدركوا أن بلدياتنا حكمت علينا بعدم استحقاقنا للاهتمام والرقي والحضارة..وأقسمت بالله غير حانثة أن تستمر في التخبط ونستمر نحن في ذيل الحضارة. 3- البلديات والتشجير: سيأتي أحدهم ويقسم بالله أنهم زرعوا 638827467849 شتلة وأنهم زرعوا 5372898773 شجرة..وسأقول: ربما أنت صادق..ولكن: أ- تزرعها وتنساها وكأنها كتلة إسمنتية لا تحتاج الري ولا تحتاج الحماية من أيدي العابثين. ب- تزين الشوارع المحيطة بقصور المسؤولين بآلاف شتلات الورود كل أسبوع..وتترك أحياء كاملة يسكنها الملايين ليشموا رائحة المجاري. ج- تزرع وتغرس وتقلع وتشجذب وتهذب أشجار الشوارع التي تتوقع أو تتوهم أو تسمع بمرور المواكب منها باستمرار..أما الشوارع الأخرى فهي (بنت الشغالة) من وجهة نظرك. د-تقوم بإنشاء الحديقة وتدعو المسؤول لافتتاحها وتعزم الصحفيين من رواد الموائد ليكتبوا عن الخبر وينشروا في صحفهم الرخيصة وبعد أسبوعين تعود الحديقة جرداء مرداء لا ماء ولا شجر..بل تصبح صورة أخرى من الصور المشوهة..التي تشرح للناس بكل وضوح معنى الفساد. ولذا فأنت منافق وكذاب أشر..ويكفي أن آخذك في جولة لأكبر الشوارع الرئيسية في وسط وشرق جدة لأثبت صدقي وأفضح كذبك..وأن شوارعنا بلا روح مثل جسدك الخاوي من الضمير..وأن حدائقنا يابسة ومهشمة ومهملة مثلما المسؤولية والوطنية مهملة في نفسك. 4 الشارع والمرور: أعتقد أن سكان جدة بالذات سيضحكون مباشرة بمجرد قراءة هذا المحور..أتدرون لماذا ؟! لأنهم يعتبرون أن المرور غير موجود أصلاً في جدة..فالمخالفات أكبر من أن يحصيها أحد..لدرجة أنهم بدأوا التعايش معها وتقبّلها بل وافتقادها حين يغادرون جدة..إننا مدمنون..نعم..مدمنو مخالفات مثلما أدمنا روائح الصرف الصحي في جدة تماماً..ولذا فإن الحديث عن جهاز المرور المرحوم لا يجوز إلا بذكر المحاسن..ولأنه لا محاسن له إلا عند أصحاب الورش لكثرة الحوادث وعند سائقي الليموزينات المخالفين للإقامة فإن الضرب في الميت حرام..ولكن لا بأس أن أقول بأن غياب المرور رحمه الله كان من أهم أسباب العبث والتخلف والجريمة وانحسار الأخلاق والإصابة بالضغط والسكر بين سكان جدة..فإذا وجدت أحداً عزيزي المواطن يقطع الإشارة ويقف خلفك بالعرض ويغلق عليك الموقف بصلافة وقوة عين ويعكس الشارع ببساطة ويسرع حتى داخل الأحياء ولا يحترم الشارع ولا الناس ولا الأرصفة فاعلم أنه من جدة. 5 الجوازات والشارع : وهذه نكتة أخرى ستجعل سكان جدة (يتبطحون) من الضحك..لأنهم يتعاملون يومياً مع مخالفي الإقامة..ويشاهدونهم باستمرار في كل زاوية من جدة..وبشكل علني..ويعلمون أنهم أصبحوا يمتلكون السيارات ويمارسون التجارة والأعمال ويقيمون الأعراس والليالي الملاح ويتكاثرون كالأرانب وبعضهم وصلوا للجيل الرابع..وهم يسكنون أحياء شعبية عشوائية كاملة بعضها تحمل اسم جنسياتهم في الأصل..بل إنهم ربما يفوقون المقيمين بشكل نظامي والمواطنين مجتمعين..وهؤلاء الملايين من الأشخاص الأميين الذين لا يعول على وعيهم ولا يجدون عملاً أصبحوا يقومون بالأعمال الوضيعة ويشكلون العصابات الإجرامية ويحطمون القيم والأخلاق مثلما حطموا النظام ويؤثرون في الناس قولاً وعملاً ومظهراً..ولن أستغرب أن تذوب القلة الواعية في الكثرة الجاهلة..ومن هنا فإن الحديث عن الجوازات نكتة من الأساس. سأكتفي بهذه الأمثلة..وأقول..نحن لسنا بحاجة لدراسات اجتماعية أو نفسية أو تربوية أو اقتصادية أو غيرها لنكتشف الحقيقة..ولكن يكفينا أن نراقب الشارع بالعين المجردة لساعة من نهار لنعرف..هل نحن متخلفون أو لا !! الرأي صالح جريبيع الزهراني كتاب أنحاء