في شارع فلسطين بجدة.. وفي المساحة المكتظة عادة بالوافدين.. والذين يعرضون خدماتهم في شراء الجوالات المستخدمة.. وتقديم خدمة الصيانة خارج نطاق المحلات المنتشرة على الشارع الرئيسي والشوارع الجانبية المتفرعة من شارع فلسطين.. يبدو ذلك المشهد والذي لاتكاد ترى فيه سعودياً خارج المحلات أو داخلها.. يمارس مهنة التكسب من سوق الاتصالات اعتيادياً على مدى أكثر من عشرين عاماً.. تكاثرت فيه المحلات التي تبيع أجهزة الاتصالات.. واصبحت تشكل سوقاً كاملة تدر عشرات الملايين من تجارتها.. كأجهزة وإكسسوارتها.. التي ارتبطت بها.. وكنت عندما تدفعك الظروف لشراء جهاز اتصال.. تتخوف أولاً من مشكلة الزحام الذي يظل في تلك المنطقة لمنتصف الليل.. وايضاً تحتار كيف تتوقف بالسيارة خاصة أنه لاتوجد مواقف فيضطر السائق بأن يلف لفة طويلة من أجل أن يترك الراكب ليشتري ما يريد.. وبعيداً عن زحام السيارات.. تكتظ المنطقة بالوافدين الأسيويين والعرب بشكل يعيق الحركة والتسوق.. ناهيك أن المحلات في الداخل مليئة بالبشر.. المتسوقين والمسوّقين من الوافدين.. وتجد عادة صعوبة في اختيار ما تريد.. ولكن هناك قدرة على الإقناع.. من البائع الوافد وأغلبهم عرب أو آسيويون.. ومعرفة سريعة لما يريده المشتري.. وتوفيره له.. كل ذلك أتى من خلال الممارسة وتفهم نفسية المشتري.. على مدى أكثر من عقدين من الزمان.. تمكن فيها الوافد من تكوين هذه القدرة الذهنية والثروة المادية من خلال سيطرته على سوق تتدفق فيها مئات الملايين..! ويبدو أن وزارة العمل تنبهت متأخرة عقدين كاملين لهذا الأمر ولسيطرة الوافدين على قطاع الاتصالات.. وكما قرأت أن أكثر من ٩٠٪ من المحلات وطنت سعوديين.. هذا التوطين ينعكس على إعالة عشرات الآلاف من الأسر السعودية.. ويفتح بيوتاً مغلقة.. ويمنع شباباً من الضياع والجلوس دون عمل في المنزل.. أو التسكع في الشوارع.. دون عمل.. والالتفاف على شباب ضائعين يمارسون سلوكيات خاطئة.. ويعيشون حياة الفراغ..! في شارع فلسطين مساء الاثنين الماضي ذهبت لشراء غرض.. بشكل سريع ولأنني لم أذهب إلى الشارع منذ أكثر من شهرين تخوفت من الزحام رغم أن الاثنين يوم عمل ودراسة وبالتالي الزحام سيكون أخف.. ولكن في منطقة الجوالات عادة لا علاقة لليوم بما يجري في السوق وبما يتكدس فيه من وافدين اعتادوا على التكسب منه.. من خلال البيع والشراء خارج المحلات.. وكأنها منطقة تجارة حرة منفصلة تماماً عن المحلات.. كان الطريق هادئاً بين السابعة والثامنة.. وفارغاً من السيارات.. وعند الوصول كانت المفاجأة.. حيث بدا السوق فارغاً.. محلات بعضها مغلق وبعضها مفتوح.. ولكن تراها قبل أن تدخل إليها من الزجاج الخارجي.. فارغة من المتسوقين.. وفارغة من الباعة.. ترددت في النزول.. وتخوفت من المكان.. توقفت بعد أن غادرت السيارة والتي ركنها السائق أمام المحل الذي أريده دون بحث عن مكان آخر.. خاصة وأن المواقف كثيرة.. والسيارات المتوقفة قليلة.. أسعدني أننا وللمرة الأولى منذ سنوات نجد موقفاً للسيارة ملائماً.. قبل أن أدخل المحل تلفت ولم أجد أحداً في الشارع من الوافدين.. بدا الشارع وممراته الجانبية مفرّغاً إلا من محلات مفتوحة وفارغة من التسوق.. غاب الوافدون.. وغابت الزحمة، وغابت تجارة الأرصفة، ونجحت خطة التوطين لكن ماذا في الداخل؟ دخلت المحل الذي اعتدت الشراء منه وسألت عن الجهاز الذي أريده.. قابلني شاب صغير بين العشرين والخمسة والعشرين.. يلبس شماغاً أحمر.. بدا وكأنني أسأله عن شيء لم يسمع عنه.. عاودت السؤال بهدوء فسأل شخصاً بجانبه لم أتبين جنسيته.. فدخل على الجهاز وأبلغني السعر.. قبل أن أخرج سألت الشاب أنت سعودي؟ قال نعم.. سألته ألم تعرف بكم الجهاز قال ببرود واستهتار.. لا ما أعرف.. ولم يكمل وجلس على الكرسي وتناول جواله وغمس رأسه في داخله دون أن يعبأ بمن في المحل.. غادرت للمحل الذي بجانبه فوجدت شاباً ممتلئاً قليلاً يجلس على كرسي مرتفع أمامه علبة ريدبول وبسكويت يأكل فيه.. سألته عما أريد فتح الجهاز وهو لايزال يأكل والبسكويت تتناثر حباته على الطاولة أمامه.. قال لي السعر.. لم أحتمل فبادرته.. أنت سعودي أكيد.. قال نعم.. فسألته.. صعب تأكل في المحل وأمام الزبائن.. قال عادي.. يا مدام مافي مشكلة.. غادرت إلى المحل الذي بجانبه.. وكأن الجولة تحولت إلى صحفية.. وجدت شاباً صغيراً عشرينيا لهجته جنوبية خجولا جداً.. فسألته عن الراتب فقال: 5 آلاف ريال.. وهل أخذ دورات في التعامل مع الزبائن.. قال نعم.. بقدر ما أسعدني هذا التوطين للسعوديين الذين عليهم تحمل مسؤوليتهم.. بقدر ماكان ينبغي تدريبهم وإكسابهم مهارة البيع والتعامل مع المشتري.. واحترامه وفهم كيف تلفت نظر المشتري وتمنعه من مغادرة المحل إلا بعد أن يشتري.. وهذه مسؤولية أصحاب المحلات.. ومسؤولية الشاب الذي من الممكن أن يمتلك محلاً مستقبلاً.. التوطين يعني تشغيل سعوديين بعد تدريبهم ومساعدتهم.. وتعليمهم أن التوطين ليس مجرد تبديل مع الوافد ولكن قدرة على تحمل مسؤولية عمل واجهة من الممكن أن تتحول معه إلى مالك للمحل..!