اللغة ومفرداتها نافذة صادقة إلى دراسة الإنسان ومعرفته، فهي الآلة التي يُعبّر بها عن نفسه، ويتحدث من خلالها إلى غيره، فهي تدل على همومه، وتكشف عن آماله، وتنقل مع ذلك طريقة تفكيره في الحياة، وأسلوب نظره فيها، فإذا أردتَ أن تعرف شعبا، أو تطّلع على روحه الموجهة له؛ فما عليك إلا أن تدرس لغته التي يستعملها، ومفرداته التي يركن إليها؛ فاللغة تعطينا مفتاحا من مفاتيح الشخصية الإنسانية، وتكشف لنا عن الإطار الثقافي الغالب عليها، فعلامَ تدل مصطلحاتنا في ثقافتنا العربية الشرقية؟ وما وجهنا الثقافي الذي نظهر به من خلالها؟ قبل مئتي عام تقريبا قدّم الفيلسوف الألماني هيجل دراسة عن الأمم، وكانت دراسته منطلقة من موقفها من حرية الإنسان، فكان نصيب الأمم الشرقية عنده؛ أنها لا تُؤمن بالحرية حقا لكل إنسان، ولا تعرف أن الإنسان، بما هو إنسان، حر، وذهب إلى أن غاية ما تعرفه من الحرية أنها حق لشخص معين، على الآخرين أن يكونوا له أتباعا، ويقبلوا به إماما، فقال عن الشرقيين جملة: إن الشرقيين لم يتوصلوا إلى معرفة أن الروح، أو الإنسان بما هو إنسان، حر، ونظرا إلى أنهم لم يعرفوا ذلك فإنهم لم يكونوا أحرارا، وكل ما عرفوه هو أن شخصا معينا حر (العقل في التأريخ، 87)، وقال عن الأمم الشرقية: إن العبارة العامة التي ذكرناها من قبل عن الدرجات المختلفة للوعي بالحرية، والتي طبقناها في الحالة الأولى على الأمم الشرقية، التي عرفت أن شخصا واحدا فقط هو الحر، وأكّد هذه الفكرة في حديثه عن الشرق قائلا: فالشرق لم يعرف، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف سوى أن شخصا واحدا هو الحر (189). قبل مئتي عام تقريبا قدّم الفيلسوف الألماني هيجل دراسة عن الأمم، وكانت دراسته منطلقة من موقفها من حرية الإنسان، فكان نصيب الأمم الشرقية عنده؛ أنها لا تُؤمن بالحرية حقا لكل إنسان، هذا حديث هيجلَ عن الشرق جملة، وهذه فكرته عنه، وربما يدفع دعواه بعض الناس، ويرونه فيها مبالغا؛ لكني أحب أن أنظر إلى رأيه، وأتفقّد فيه صوابه من خطئه، بتفتيش اللغة العربية ومفرداتها، فاللغة ومفرداتها مرآة واضحة للمجتمع وأهله، ومهما حاولت الأمم أن تُخفي عيوبها، وتستر ما فيها، فلغاتها الباقية ومفرداتها المتداولة ناطقة بما هي عليه من منطقِ تفكيرٍ وفلسفة حياة، ولغتنا العربية من تلك اللغات التي تختصر لك إنسانها، وتُعطيك ما كان من حاله، فما الصورة التي ترسمها اللغة لصاحبها؟ وما الفكرة التي يأخذها من يعرف مفرداتها؟ لستُ مقتدرا على الحديث عن علل الإنسان الشرقي عامة كما فعل هيجل؛ فذاك بحر لا أجيد الغوص فيه، ويمّ لا أملك السباحة في مياهه؛ بيد أني أجد في نفسي نزوعا شديدا للقول في علل الشرقي المسلم، والعربي على وجه التحديد، لا أستطيع له دفعا؛ فأنا منه وهو مني، ما يُقلقه يقلقني، وما يُزعجه يُزعجني، وهو قول يُلحّ عليّ، ويُرغمني على البوح، ومع ما أنا فيه من إقبال على الحديث، وحرص عليه، فما قولي فيه إلا رأي رأيته، ووجهة نظر ذهبت إليها، لا أستغرب أن يكون قبلي أحد قالها واحتجن القول فيها، وأنا مع هذا وذاك قد رأيتُ أن أتخذ موقف هيجل من الأمم الشرقية بوابة إلى أمتي العربية الشرقية، وأجعل المظهر اللغوي للأمة هو ميدان تصويب هيجل وتخطئته. حين قرأت حديث الرجل واستعرضت بعض المفردات في لغتنا العربية، وحضر بعضها الآخر إليّ؛ وجدت فيها ما يؤيد طرحه، وينهض دليلا على موقفه، وجدت في اللغة، وهي الواصفة لحال الإنسان، ما يُظهر الإنسان العربي الشرقي محبا للاستظلال بالآخرين، والعيش في كنفهم، والمكث على تلك الحال معهم، وتلك ظاهرة تأريخية، وأريد بالتأريخية أنها راجعة إلى التأريخ وظروفه، وليست خصلة فطرة في الشرقي نفسه؛ لأن الفطرة معنى مفتوح، ودلالة عصيّة على الكشف، والإنسان، كما تقرر عند الكثيرين، مصنوع ثقافي ومخلوق ظرفي، فما الذي أبقى الشرقي المسلم على هذه الصبغة، وجعله حبيس عالم الأشخاص الذين يعيشون قبلها بمئات السنين؟ هذه الخصلة التأريخية في الشرقي العربي قادته إلى تكوين الرموز، وإقامة عالمٍ من الأشخاص يأوي إليه، ويحتمي به، يظهر ذلك في لغته التي يستعملها مع هذا العالم، ومفرداته التي يُطلقها عليه، فمثلا اخترع مصطلح الإمام في المذاهب العقدية والفقهية، فصار عند العربي المسلم أئمة في العقيدة والفقه، لهم حق إمامة الناس وقيادتهم في تلك العلوم، ومصطلح الإمام، وإن كان يُضمر تفوق هذا الإنسان على غيره، وذاك أمر مقبول في ذاته، فهو يدل أيضا على موقف الناس منه، وأنهم يتخذونه لهم إماما، يرجعون إلى قوله، وينطلقون منه، ويسيرون على خطاه، فهو حسب قول هيجل الحر وحده، يتبعه الناس حيث سار، ويقتفون أثره أنّى اتجه، لا يستطيعون أن يتقدموه، ولا يملكون أن يمضوا دونه. العربي الشرقي يغلو في عالم الأشخاص، وأقصد بالغلو أنه يرفعهم أحياء وأمواتا فوق مستوى البشر، ويستعين باللغة في إخراجهم مخرج غير الناس، فتسمعه يقول: فلان لا يُشق له غبار!، ولا يُوقف له بالميدان، إمام فاق الأقران، وجهبذ لم تلد النساء، ولن تلد، له نظيرا سائر الزمان! نسيج وحده، إن تكلم في فن ظُن من براعته أنه لا يُحسن سواه. تكثر هذه العبارات وأمثالها على ألسنتنا، وتدور كثيرا في كتبنا، وهي مظهر لغوي دال على أن الشرقي العربي يصدق عليه قول هيجل؛ فهو ميّال إلى تقديس بعض الأشخاص، ورفعهم عن مستوى البشر، وهذا قاده إلى أن يمنحهم الحرية وحدهم، ويجعل لهم كل الحق في القول والفعل، ويحرم نفسه وسائر الناس من ذلك، فيصبح نقدهم حراما، والخروج عمّا سنوه باطلا. ومما تحكيه كتب التراجم، ويصلح إيراده هنا شاهدا ودليلا؛ أن أبا حيان الأندلسي، صاحب البحر المحيط وغيره، كان يُعظّم ابن تيمية، ثم وقع بينهما خلاف في مسألة نقل فيها أبو حيان شيئا عن سيبويه، فقال ابن تيمية: وسيبويه كان نبي النحو! لقد أخطأ سيبويه في ثلاثين موضعا من كتابه، فأعرض عنه ورماه في تفسيره (النهر) بكل سوء! (السيوطي، بغية الوعاة، 1/ 282). أصاب ابن تيمية في موقفه هذا، وأخطأ أبو حيان، ولولا الصورة التي بناها أبوحيان عن سيبويه في ذهنه، وصيّره بها إماما، لا يُجاوز قوله، ولا يُنتقد رأيه؛ لما حدث منه ما حدث، ولما ذهب في تفسيره إلى هذا الذي ذكره أهل التراجم عنه، لقد أعطى أبوحيان، حسب نظرة هيجل، الحرية كلها لسيبويه، وسمح له أن يأتي بما شاء من قول ورأي، وحظر على غيره أن يكونوا مثله، وحمّلهم حين أرادوا حرية القول جريرة خطئه في التفكير، وزلته في النظر، وهذا الذي يُلام عليه أبوحيان هو الذي يُلام عليه الشرقيون العرب؛ ففي لغتهم من المفردات ما يشهد به، ويدل عليه، وتلك هي علة الشرقي التي جعلت أخاه الغربي يتقدم عليه، وينهض في الحياة قبله، الغربي حرر الناس فشاركوا في البناء، واجتمعوا عليه، والشرقي خصّ بالحرية أفرادا وأشخاصا، فعطّل معظم الطاقات، وحبس أكثر المواهب، الغربي كإنسان ينظر إلى الحياة بألف عين، والشرقي كمن ينظر إليها بعين واحدة، فأيهما أحسن منهجا، وأصوب طريقا؟