عاطف الغمري قادت دوامة انتخابات الرئاسة في أمريكا، والتشويش الذي خيم على مقاييس اختيار المرشح المناسب، إلى فتح ملفات لم تكن تلفت الأنظار، في ظروف أي انتخابات، أو أزمات سياسية، ومنها الملف الذي يصفه خبراء ومحللون أمريكيون، بملف نقص المساواة بين الأمريكيين، سياسياً واقتصادياً Inequality InThe United States . وبالرغم من أن تلك الظاهرة يلمسها المواطن الأمريكي منذ سنوات، إلا أنها لم تكن تفرض نفسها على انتباهه، أو تصْرفه عن اقتناعه بأن النظام السياسي والاقتصادي في أمريكا، هو الأكثر ملاءمة لها، من حيث التاريخ، والظروف، والمستقبل. يقول البروفيسور دانييل آلان مدير مركز الدراسات بجامعة هارفارد، إن التيار الذي يدفع إلى صعود حالة من عدم المساواة الاقتصادية في أمريكا، كان قد أصبح واضحاً في منتصف التسعينات. ومن يومها بدأ يشغل اهتمام المختصين، فيما يتعلق بأسبابه، وتداعياته في السنوات المقبلة. هذا الوضع يناقض ما كانت عليه الحال في السنوات الأولى لقيام الدولة الأمريكية، حين كان هناك توافق على أن المساواة الاقتصادية، والحرية السياسية، يعززان بعضهما البعض. إلى أن بدأت تظهر في منتصف القرن العشرين، تفسيرات تبرر منطق عدم حتمية الارتباط بين الاثنين. مثلما بدأت تسود في سنوات الحرب الباردة، أفكار عن التباعد بين الحرية السياسية، والمساواة الاقتصادية. بل إن طرح هذا التباعد للنقاش، قد أوجد آراء لديها تحفظات على معنى السوق الحرة ذاته، وأن الأمر لا ينبغي أن يترك لقواعد السوق الحرة، بما يجعلها تميل لغير صالح الأقل دخلاً، وأن هناك الآن ضرورة للاعتماد على القواعد والإجراءات، التي تنظم حركة السوق، بمساندة القانون وبسلطة الدولة، وتدخلها. إحدى المؤسسات ذات المصداقية الأكاديمية، وهي جامعة برينستون، نشرت دراسة للبروفيسور مارتن جيلنر أستاذ العلوم السياسية بالجامعة، عنوانها سيطرة النخبة الاقتصادية، تقول إن مراعاة رجال الأعمال الأكثر ثراء، كان لها تأثير ضخم على اتخاذ القرارات السياسية، بما يفوق مراعاة، آراء الطبقة الوسطى، والفقراء في أمريكا. ولم يكن لآراء المنظمات المعبرة عن محدودي الدخل، سوى تأثير ضئيل - وربما تأثير منعدم - على القرار السياسي، وبالتالي لم يكن للرأي العام سوى تأثير محدود على السياسات التي تقررها الحكومة. وحين ترغب النخبة الاقتصادية، أو جماعات المصالح المنظمة في إجراء تغيير سياسي، فإنها عادة ما تحققه، بينما لا يتاح ذلك لغالبية المواطنين. نفس الرأي اتفق معه اثنان من كبار الكتاب هما: رايت ميلز في كتابه المهم (النخبة القوية) The Power Eliteحيث شرح الكيفية التي مارست بها تاريخياً النخبة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، أشكالاً مختلفة من السيطرة على القرار. والثاني, جون كاسيري في دراسة نشرتها مجلة نيويورك، قال فيها: لا شك أن النخبة الاقتصادية، تتمتع بنفوذ في واشنطن، وأن آراءها، ومصالحها، تؤثر في السياسة بطريقة لا تفيد بالضرورة الأغلبية، وكل السياسيين يعرفون ذلك، ونحن أيضاً نعرفه. هذه الآراء التي عرضتها دراسات استقصائية، استناداً إلى معلومات موثقة، طغت على سطح المناقشات الجارية، في تيار انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، وفي إطار جهود الباحثين عن الأسباب الغاطسة في عمق المشهد الأمريكي، والتي تحكمت في مواقف الناخبين، بصورة لم تحدث على هذا النحو من قبل، وكانت وراء ظاهرة صعود ترامب، رغم الرفض الكبير له من الحزب الجمهوري، الذي رشح نفسه تحت رايته، وأيضاً عن نفس حالة النفور من المرشحة المنافسة هيلاري كلينتون. ويرى الذين وضعوا كل هذه الأسباب تحت أنظارهم، أن النظام السياسي في الولايات المتحدة، والمستقر على حاله من جيل بعد جيل، توشك أن تجتاحه موجات تغيير. ففي الماضي كان المواطن الأمريكي العادي، يسلم بأن هناك أوضاعاً مسكوت عنها، وليس له أن يتمرد عليها، لكن الآن قد تغير مزاجه، وأقدم بالفعل على التمرد، مما ستكون له تداعيات، يمكن أن تنعكس على المشهد السياسي الأمريكي بأكمله.