صحيح أن لبنان تميّز بالزّجل، حتى أوصله إلى المنابر، فأصبح فنّاً ذا قاعدة شعبيّة لا تضاهى، إلاّ أنّ الشِّعر باللغات المحلّية، العامّية، ظاهرة مشتركة في مختلف الدول العربيّة تستحقّ التوقّف عندها دراسة وتحليلاً، وبات من سخيف القول في يومنا أنّ لغة الناس اليومية تشكّل خطراً على لغة الضاد، وأنّها لا ترقى إبداعاً إليها. «الشاعر والزجّال... والشِّعر بينهما» دراسة تاريخيّة نقديّة تحليليّة للشاعرين حبيب يونس ومارون أبو شقرا، وفيها الملامح التي تجعل وجه الزجل في مرآة ووجه الشعر في أخرى. ممّا لا شكّ فيه أنّ لمسألة الشِّعر العاميّ والزّجل، اليوم، حضوراً ملتهباً في ساحة الأدب اللبنانيّة. فالزجّالون مستميتون على لقب شاعر، بعدما نسوا أو تناسوا أنّهم والزّجل أسرى دائرة الفولكلور والتراث. وهم ينظرون إلى شعراء القصيدة العامّية باللغة اللبنانيّة مُشَعْوِذي شعر، إذ وصلت بهم الهرطقة إلى التصرّف في الأوزان والقوافي وتنقية اللغة ونسج مناخات وطقوس وأساليب جماليّة تعدّدت بتعدّد الشعراء، في حين أنّ الزّجل محروم من هذا التعدّد، إلى حدّ أنّ قصائده تبدو وكأنّها وليدة لسان أو قلم واحد، فمن المتعذّر أن نميّز بين قصيدة لزجّال وثانية لآخر مثلما نميّز بسهولة كلّيّة بين قصيدة لميشال طراد وثانية لمالك طوق وثالثة لجوزف حرب... ولا بدّ من الإشارة والاعتراف، أيضاً، أنّ الشعر العاميّ اللبناني هو ابن الزجل الشّرعيّ، إلاّ أنّ هذا الولد لم يكن لأبيه وكان لذاته، فاتّجه نحو عوالم جديدة بكلّ حرّية، ونقل من ضفّة الفولكلور والتراث إلى ضفّة الشموليّة ليمسي شعراً تتوافر فيه كلّ الشروط التي تفسح له المجال للدخول إلى خزانة الأدب العالميّ باستحقاق وجدارة. ولا يعني هذا الكلام أيّ انتقاص من الزّجل الذي سيبقى فنّاً تراثيّاً راقياً له في وجدان اللبناني ما للدبكة وصحن التبّولة. في «تمهيد» يعلن الشاعر حبيب يونس أنّه سيسلك كتابة مسلك المحقّق الصحافي والباحث الأكاديمي مضيئاً على بدايات الزجل وأوزانه، وعلى اختلاف الشعر المحكي اللبناني عن محيطه: «يقوم ملفّي المصوغ بذهنيّتي التحقيق الصحافي والبحث الأكاديمي على فصلين: يتضمّن الأوّل لمحة تاريخيّة عن أصول الزجل، وهي سريانيّة بما لا يقبل الجدل، ومقارنة أوزانه بأوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويلخّص الثاني الأسباب التي جعلت من الزجل، من ثمّ الشعر المحكيّ، في لبنان يتميّز عن أيّ شعر عاميّ أو محكيّ في محيطنا، خصوصاً من حيث انتشاره»... وإذا كان يونس يعطي للزجل ما يستأهل من مكانة إلاّ أنّه يرى الشعر المحكيّ بريئاً من عباءة الطقوس و: «ما هو إلاّ تحليق بجناحين من حبر في فضاء الإبداع»... أمّا الشاعر مارون أبو شقرا فيتّفق في المقدّمة مع يونس في أنّ الشعر المحكي هو من «رحِم الزجل»، غير أنّه يركّز على شخصيّة الشعر المحكيّ المستقلّة، كالتي هي للساكسوفون الطالع من رحِم الناي: «وكما بات للساكسوفون شخصيّته المستقلّة التي تميّزه عن الناي، بات للشعر شخصيّته المستقلّة التي تميّزه عن الزجل»... وما يهمّ أبو شقرا في طرحه هو التمييز و: «إظهار الفرق بين ما هو «شعر» وما هو «زجل» إذ إنّ التعريفات القديمة سمحت بالخلط الكبير»... وبعد عرض أكاديميّ موثَّق ليونس لآراء كثيرة حول أوزان الزجل استنتج أن: «البحور الزجليّة المطابقة في تفاعيلها لأوزان الخليل لا في أسمائها كما اتفق عليها شعراء الزجل، ثمانية – وربّما تسعة - هي: الطويل والبسيط والرَّمل- ومجزوؤه - والرّجز – ومجزوؤه - والكامل – والحذذ منه - والوافر والمتدارك والسريع، وهذه الـ{ربّما» يفرضها إمكان استخدام بحر الهزج». وعن هذه الأوزان قدّم يونس نماذج واستشهادات شعريّة كافية، تثبت دقّته وقدرته على الإقناع بعيداً من المغالاة والانفعال والانحياز... الشعر اللبناني في الفصل الثاني من بحثه «التطوّر والتميّز»، سلّط يونس الضوء على الشعر اللبناني (العامي) الذي: «بلغ أحياناً مرتبة الشعر الفصيح، وحتى الشعر العالمي»... ويرى يونس أنّ الشعر العاميّ العربيّ حضر قبل الفصيح عند العرب: «واستمرّ معه وبعده»... وفي ما يخصّ الشعر العاميّ اللبنانيّ فإنّ أسباب تميّزه بحسب يونس قد تحصر: «بثلاثة: اجتماعيّة ولغويّة وعقائديّة»، وقد فصّلها مستنداً إلى الحقائق والوقائع عائداً إلى النصوص وأسماء علم كثيرة في مجال الشعر والنقد والأدب على امتداد مئات من السنين... ورصد يونس بداية الشعر العاميّ مع الشاعر ميشال طراد: «وكان لطراد الذي نشر أوّل ديوان له «جلنار» عام 1957 أن جعل من الشعر اللبناني أدباً لا يقلّ مستوى عن أيّ شعر في أي لغة»... ولم يغفل يونس دور الرحبانيين عاصي ومنصور في صناعة مجد الشعر العاميّ بالكلمة وبصوت فيروز. ماهية الزجل حاول الشاعر مارون أبو شقرا قراءة ماهيّة الزجل وبالتالي ماهيّة الشعر المحكيّ. فوجد للزجل خصائص، ومنها: «العفويّة، البساطة، السهولة، المباشرة، الارتجال، المحاججة، التباري، الغنائيّة، الإطراب»... إضافة إلى «الفكاهة وهي واحدة من أبرز خصائص الزجل»... وعرض أبو شقرا نماذج زجليّة تثبت ما ذهب إليه في مفهومه للزجل. ثمّ قدّم مقاربة تعريفيّة للشعر تمهيداً لآرائه في الشعر المحكيّ، فلاحظ أنّ الزجل يتّجه دائماً نحو الإطالة والهدر اللغويّ في حين أنّ الشّعر تكثيف وإيحاء: «فيما ينشغل الزجل بالإطالة وملء الوقت، يتّجه الشعر نحو الاختصار والتكثيف والتكوير»... وفي هذا السياق استعان أبو شقرا بنماذج شعريّة، ليتها كانت أكثر. وهو وإن لحظ الفوارق الهائلة بين الزجل والشعر اعترف بأنّ: «في الزجليّات الكثير من الأبيات الرائعة ولكن قلّما تقرأ زجليّة تحفة... في الزجليّة بيت أو أبيات جميلة، وما بقي ليس أكثر من كلام عاديّ موزون ومقفّى»... ويلحظ أبو شقرا أثر ما بعد الكلام إذ إنّ للشعر قدرة البقاء في المتلقّي وتحريضه على مواصلة الإبحار بعد خروجه من الماء، بينما الكلام الزجلي ينتهي بنهاية الصّوت وذلك يعود إلى أسباب يراها أبو شقرا بمنتهى الوضوح: «يشركك الشعر في إبداع القصيدة من خلال ما يترك لك من آفاق مفتوحة، فيما يغلق الزجل عليك كلّ أفق الخيال لكثرة السرد والمباشرة والبساطة والعادية والحدّيّة واللامفاجأة واللادهشة»... كتاب «الشاعر والزجّال... والشّعر بينهما» للشاعرين حبيب يونس ومارون أبو شقرا إضاءة موفّقة على قضيّة أدبيّة تحتاج إلى المزيد من الاضاءات، ولو أنّ الشّعر المحكيّ العاميّ صار له أهل ودار، وله على شرفة المستقبل ما ليس للزجل، باعتبار أنّ سُنّة الحياة لا تسمح للفولكلور والتراث بالتوسّع، في حين أنّها تنتمي إلى الأشمل والأوسع حيث الجمال إرث إنسانيّ عامّ غير خاضع بشكل كلّي ومباشر لشروط الزمان والمكان والبيئة والمحلّيّة.