الخرطوم: بثينة عبد الرحمن يوما بعد يوم تتواتر الأخبار عن «الذهب بالسودان». وقال مدير البنك المركزي إن جملة صادرات الذهب خلال الربع الأول من هذا العام بلغت نحو 6 أطنان من الذهب بقيمة 275 مليون دولار، مضيفا أن شركات أفريقية وأخرى أوروبية عرضت تصفية ذهبها عبر مصفاة السودان. وقال وزير المعادن إن وزارته ستخصص للمستثمرين أراضي أكثر للتنقيب عن الذهب فيما يقول متابعون إن السودان سيصبح الثالث أفريقيا من حيث إنتاج الذهب بعد جنوب أفريقيا وغانا هذا بينما يتداول الشارع السوداني قصصا وحكاوي ويعلق آمالا على الذهب لا سيما بعد أن أصبح الحديث عن النفط لا يتجاوز تصريحات عن السماح بعبوره من الجنوب عبر الشمال أو إغلاق البلوفات بسبب اتهامات وكيد ومماحكات التي ما إن تهدأ حتى تشتعل بين حكومتي «السودانين» شمالا وجنوبا. السؤال عن «الزول» الذي هجر كل شيء وغاب فجأة بات مكرورا بالسودان وغالبا ما تتبعه إجابات مختصرة تؤكد ذهابه للتنقيب عن الذهب. إجابات تأتي مشبعة بالكثير من التوقعات طامحة في ثراء لم يعد محل شك بين من انتشروا في مناطق الذهب ممن حفروا ونقبوا وعادوا بما قدره مسؤول في حديث لـ«الشرق الأوسط» بأكثر من 34 طن ذهب خالص خلال العامين المنصرمين فقط هذا فيما يؤكد خبراء جيولوجيا أن الذهب يتوفر بالسودان بكميات مقدرة بل مهولة جبارة يمكن أن تعود على الخزينة السودانية بما قد يصل إلى 70 طنا سنويا تزيد أسعارها بزيادة الأسعار عالميا متسائلين هل يصبح الذهب نعمة للسودان وتنمية أقاليمه أم يتحول لنقمة يسرقه البعض وتتحارب من اجله قبائل. بدوره فإن من يتجول بالعاصمة السودانية المثلثة الخرطوم بجناحيها أم درمان والخرطوم بحري وضواحيهم دع عنك أقاليم الذهب شمال وشمال شرقي السودان بل حتى بمواقع التنقيب بتلك الأقاليم المتوترة أمنيا مثل جنوب كردفان وأجزاء من شمال دارفور، لن يفوته الإحساس العميق بحرارة «حمى الذهب» التي يعيشها السودانيون لا سيما من يطلق عليهم اسم «الدهابة» وهم ذكور من مختلف الأعمار والتجارب والتخصصات تركوا كل شيء وهرولوا مسرعين ينقبون عن الذهب في طلعات فردية وأخرى جماعية لم تنقطع منذ أن استعر الإحساس بالذهب بصورة غير مسبوقة رغم أن ثراء السودان بهذا المعدن النفيس ليس أمرا جديدا وما الجديد إلا التنقيب عنه بهذه الكثافة. ومعلوم أن ثراء السودان بالذهب كان سببا رئيسا لغزوات خارجية أهمها الغزو التركي المصري عندما بعث محمد علي باشا الذي حكم مصر خلال الفترة 1805 - 1848 بقواته للسودان بحثا عن الذهب والرجال بهدف تمويل وتكوين جيش قوي يدعم فتوحاته وطموحاته. ردا على السؤال حول أسباب كثافة النشاط الحالي وهيجان الحماس تنقيبا عن الذهب أرجعت مصادر «الشرق الأوسط» الأمر للارتفاع الكبير في أسعار الذهب عالميا وللتطور الملحوظ في أجهزة استكشافه ولزوال ثروة النفط الذي ارتحل جنوبا بانفصال جنوب السودان مما ضيق من قبضة الأزمات المالية خاصة أن حكومة الخرطوم لم تحسن استثمار ما جنته من الثروة النفطية مما ضاعف من روح المغامرة بين قطاعات تعاني أصلا من الركود والفقر والحرمان بسبب سوء الأحوال الاقتصادية والعنت والعطالة فاندفعوا (لا سيما في بادئ الأمر) للمغامرة مؤمنين أنهم إن لم يكسبوا فلن يخسروا غير مبالين أن الأمر ليس بالهين فالجبال وعرة خطرة والصحاري قاحلة والحرارة شديدة وأن بردت ليلا فبردها قارس قاس وسائل حفرهم بدائية. اليوم، وعلى الرغم من أن هجرة الدهابة لم تنقطع إلا أن الأحوال تبدلت قليلا خاصة بعد العثور فعلا على كميات من الذهب ونشاط محاولات حكومية وأهلية تسعى لئلا يكون التنقيب عن الذهب «مهنة من لا مهنة له» بل سعى قادرون لاحتكار عمليات التنقيب وأنشطته كما دخلت شركات عالمية منها السعودية والمغربية والجزائرية والإماراتية والمصرية جميعها «اغتربت» وحطت رحالها ومعداتها قاصدة ذهب السودان جنبا إلى جنب شركات أوروبية بما في ذلك شركات أميركية رغم المقاطعة، وفي هذا قال مسؤول حكومي لـ«الشرق الأوسط» إن من لا يأتي عبر الباب يسعى للدخول عبر النافذة. من جانب آخر، ومع ازدياد النشاط حول مواقع الذهب التي تقدرها تقارير رسمية بأكثر من 106 مواقع تنتشر في 13 ولاية منها ولايات شمالية وأخرى شرقية شمالية وثالثة غربية ورابعة وسط السودان بعضها لا يبعد عن الخرطوم غير كيلومترات وجد كثيرون فرصا للعمل في مجالات ترتبط ارتباطا مباشرا بعمليات التنقيب. وفي مجالات أخذت تنمو بنمو مواقع التنقيب كالتجارة في آليات الحفر وأجهزة الكشف عن المعادن وتأمين وسائل نقل الصخور للطواحين والدقاقات ومعدات الغربلة للصخور وبيع مادة الزئبق لفرز الذهب ليس ذلك فحسب بل نشطت وانتشرت أنواع أخرى من سبل العيش بمواقع التنقيب كبيع الأطعمة والمشروبات وحجارة البطاريات وشرائح الجوالات والخيام والملابس بل عمل بعضهم على بناء «حمامات» تستلزم الدهابة في تلك «الخلاءات» كما ازدهرت عمليات الترحيل من المدن وإلى مواقع الذهب مهما بعدت المسافات، وفي هذا السياق تقول السالفة إن كماسرة الناقلات ينادون على سفرياتهم وهم بالمدن بشعارات تحفز وتشجع على التنقيب «في انتظاركم الدهب والغنى والمستقبل» وحتى لا تعود مركباتهم خالية دون ركاب فإنهم يخيفون الدهابة بالنداء «الدهب، الوهم، الأهل، ارجع اضمن سلامتك»، وفي سياق مواز أثرت الهجرة الكثيفة لمناطق التنقيب على مهن أخرى أصبحت تشكو قلة في الأيدي العاملة كما ارتفعت أصوات تشكو من تسرب أطفال بمدارس الأساس يتركون الفصول ويهاجرون لمناطق التعدين رغم خطورتها وخطورة اختلاطهم دون رقابة ليس ذلك فحسب بل حذر مدير عام شرطة ولاية النيل مما تفتقده الشرطة من قوات أصبح هاجسها التنقيب عن الذهب منبها في سياق آخر للآثار السالبة لغزو الدهابة الذي يطرد الحيوانات البرية بالمنطقة ويدفعها للهروب شمالا تجاه مصر. إلى ذلك وإن شهدت قطاعات نموا بسبب عائدات الذهب إلا أن قطاعات أعمال يدوية وزراعية وأعمال بناء وتشييد أصبحت أكثر غلوا في الأسعار بسبب نزوح أعداد ضخمة من الرجال بحثا عن الذهب مما قد يقلب الموازين وقد يدفع بالمرأة لولوج مجالات لم تلجها من قبل، وفي حوار لـ«الشرق الأوسط» مع النعيم أحمد وهو شاب يصدق وصفه بـ«فاقد تربوي» وأنه يمتاز بعقلية تجارية وعزيمة قوية، قال النعيم «منذ سنين رحلنا من قريتنا وسكنا العاصمة ومنذ 7 شهور رجعنا نبحث عن الذهب. لم يتوفر لنا شيء لخيبة محافرنا لكننا لم نيأس فقط غيرنا طريقنا وتوزعنا للعمل في الطواحين والدقاقات والحراسة وفي وسائل مواصلات ومطاعم ومحال حلاقة وترقيع أحذية وغسل ملابس كما عملنا في محلات تخدم وتبيع لمن يعملون مع شركات أجنبية من تلك التي احتكرت المواقع بأرض أجدادنا بالبطانة»، ويمضي الأمين مواصلا «اليوم عدنا للعاصمة لشراء جهاز كشف حديث نواصل به الحفر في فضاءات ما تزال خالية لم تحتكرها الحكومة لتوزعها على الخواجات»، ماضيا في إشارة احتجاجية ضد قوة وإمكانات شركات التنقيب العالمية، مواصلا أنهم وإن خرجوا بشذرات من الذهب ناهيك عن جرامات وأوقيات فإن مستقبل حياتهم سوف يتغير لا محالة، شارحا في ثقة تامة أن فرص التنقيب أمام المواطنين في الغالب الأعم أصبحت تتطلب مشاركة جماعية بحيث توفر مجموعة جهاز الكشف ومجموعة حفارة وأخرى كسارة وأخرى غرابيل وطسوت وأخرى تتولى الحراسة وهكذا. وبينما يؤمن النعيم ورفقاؤه ممن التفوا حول «الشرق الأوسط» أمام متجر بسوق أم درمان وهم يشحنون ناقلة بكميات من الأطعمة المعلبة أن فرص التنقيب عن الذهب ما تزال متوفرة أمام الأهالي، إلا أن مسؤولا بوزارة المعادن أو «وزارة الذهب» كما يطلقون عليها «أنشئت مايو (أيار) 2010 بعد الاندياح الذهبي» يرى عكس ذلك تماما، شارحا أن الدهابة التقليديين لم يقصروا مقدرا حصيلة إنتاجهم بـ34 طنا من مجموع 50 طنا حصدها السودان من الذهب العام الماضي، إلا أن المستقبل والاستمرارية للتنقيب الحديث المؤسس والمنظم تقوم به شركات استثمارية خاصة أن الحكومة تهدف لاستخراج أكبر كمية ممكنة من الذهب وغيره من المعادن لدعم الاقتصاد الوطني ولتوفير مدخلات الزراعة والصناعة بجانب المساهمة في التنمية المستدامة مما يتطلب تنظيم عمليات التنقيب، مؤكدا أن التنقيب التقليدي سوف يضعف ويتلاشى تلقائيا لكونه سطحيا لن يقدر على منافسة النشاط التعديني المنظم الذي تقوم به شركات تطالب بحمايتها وحماية استثماراتها من تغول العشوائيين. وعند سؤاله عن حصافة هكذا سياسة تطرد المواطن لتهيمن شركات أجنبية؟ أشار إلى أن الشركات تدخل مشاركة للحكومة، مضيفا أن الوزارة لن تخرج التقليديين (متجنبا أن يصفهم بالعشوائيين) وإنما سيخرجون بأنفسهم، مؤكدا أن الوزارة تعمل حاليا على حصر المناطق وتنظيم التقليديين في شكل جمعيات تعاونية بل إن الوزارة، كما قال، تمولهم بقفازات وكمامات وماكينات للطحن حماية لهم من غبار الصخور خاصة أنها صخور سيليكا تمتص الرطوبة مما يتسبب في أمراض حمى المعادن والسعال المعدني، مواصلا بأن الوزارة تعمل على التنبيه عن مخاطر استخدام الزئبق موفرة ماكينات تستخدم المياه عند الطحن توزع مجانا كما جلبت الوزارة شركات لمعالجة مخلفات الزئبق. وفي هذا النطاق تم إدخال جهاز اسمه «المعوجة» لتدوير الزئبق في حلقة مغلقة كما تم استصدار لائحة لاستخدام الزئبق وتأهيل شركات معينة لاستيراده حتى تتم معرفة حجم الداخل منه بهدف إيقاف استخدامه واستبداله بالفصل ميكانيكيا بجانب طرق الاستخلاص الأخرى التي لا تستخدم مواد مسرطنة مشيرا لمادة السينييد التي رغم أنها سامة لكنها غير مسرطنة خاصة أنها تتحول مع الزمن إلى مادة خاملة، مؤكدا أن العمل في جمعيات تعاونية يساعد في كسر احتكار المناجم.