يبدو أن الضجة الهائلة التي أحدثها القانون الأميركي «جاستا» في عديد الأوساط الدولية، آخذة في الانتشار ولن تهدأ، لا لأن هذا القانون يعدّ في الحقيقة، انتهاكاً لمبدأ سيادة الدول الذي هو من المبادئ المستقرة للقانون الدولي، وإنما لأنه يهدد ببدء ما يمكن أن نطلق عليه فوضى دولية عارمة، ستكون الولايات المتحدة الأميركية إحدى ضحاياها، بقدر ما هو سابقة في التشريعات التي تقرّها البرلمانات في دول العالم، التي من المفترض أن تكون ممحصة، ومُحْكَمَة، وغير ضارة بالمصالح الحيوية للدول التي تصدر منها. وهذا ما لم يتوافر في القانون الأميركي الذي أثار ولا يزال، قدراً من الاستغراب والاستنكار من أن يصدر من الكونغرس الذي يفترض أنه مجمع نخبة من السياسيين ورجال القانون يمثل إرادة الشعب الأميركي. وإذا كان من الواضح أن هذا القانون يستهدف في المقام الأول، المملكة العربية السعودية، في إطار حملة منظمة انطلقت منذ سنوات، لابتزازها والضغط عليها لتحقيق أهداف شريرة تضر بالعالم الإسلامي كله، فإنَّ من المحقق أن الكونغرس، الذي هو قمة السلطة التشريعية في الولايات المتحدة، قرر ما هو أبعد من ذلك من دون أن يضع في الحسبان المصالح الإستراتيجية الأميركية، ويقرأ بتدقيق وإمعان، الخريطة العالمية لتلك المصالح، ويراعي الاحتمالات المفترضة والمحققة لردود الفعل التي ستعقب هذا التشريع، الذي فاجأ الرأي العام المحلي والدولي، وانتقده الخبراء والإستراتيجيون والقيادات الديبلوماسية والاستخباراتية التي عملت مع الإدارات السابقة. إن إصدار هذا القانون الذي يفتقد السند القانوني، بالإضافة إلى موقف أميركا المتذبذب والضعيف تجاه ما يجري في المنطقة من أحداث خطيرة على السلم والأمن الدوليين، يهزان المركز الدولي للولايات المتحدة الأميركية، التي من المفترض أنها في الصدارة من القوى الدولية المنافسة لها، خصوصاً بعد أن أثبتت روسيا الاتحادية قدرتها على فرض وجودها والتمكين لنفسها والانفراد بقرار الحرب والسلم في سورية الواقعة تحت احتلالها مع إيران التي تشاركها، من دون أن تنافسها، في هذا الاحتلال. فالولايات المتحدة اليوم هي غيرها قبل ست سنوات، وروسيا اليوم خرجت من وضعها المأزوم، وصارت تستعرض عضلاتها، وتتحدى المجتمع الدولي، وتتصدّى لغريمتها الولايات المتحدة التي لا تبدو أنها في وضع يسمح لها بالمبارزة لردّ الاعتبار، وللحفاظ على مركزها، ولإثبات أنها القوة الأولى في الساحة الدولية. وليس هناك شك في أن قانون «جاستا» هذا سيرتد إلى الولايات المتحدة، ويعود عليها بخسائر سياسية مرتفعة الكلفة، نتيجة المعارك القانونية التي ستشن ضدها وسترتكز على الممارسات المنتهكة للقانون الدولي التي قامت بها الإدارة الأميركية الحالية والإدارات السابقة في عديد من الدول، ومنها دول عربية إسلامية راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، ونتج منها خراب ودمار وكراهية شديدة للدولة الأميركية من طرف الشعوب التي عانت طويلاً من تلك الممارسات الظالمة الباطشة. فهذه الدول المتضررة من السياسة الاستعمارية الجديدة التي مارستها الإدارات الأميركية على مدى العقدين الماضيين وما قبلهما، يمكن لها، قانوناً، أن تتابع الولايات المتحدة بموجب قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب»، على أساس أن واشنطن راعية للإرهاب بالدرجة الأولى. وفي هذه الحالة سيغرق العالم في دوامة من الفوضى الطاحنة التي ستهدد الأمن والسلم الدوليين. فهل غفل المشرعون الأميركيون عن هذا الأمر فمضوا في طريق يفضي ببلادهم إلى هذا المستنقع من دون وعي منهم؟. ولن يكون الوضع الدولي بعد صدور القانون الأميركي هذا كما كان من قبل، ففضلاً عن اضطراب الأحوال في المنطقة العربية، وبلوغ الأزمة السورية الدرجة القصوى من الاشتعال، فإن احتدام الصراع بين الغرب عموماً وبين روسيا الاتحادية بعد التأزم الذي حدث في العلاقات بينهما، يمهد لما هو أخطر، في ظل موقف الضعف والقصور والتخاذل الذي تقفه الإدارة الأميركية إزاء تدهور الأوضاع إلى حد بعيد من الخطورة في سورية. في هذه المرحلة المتفجرة، التي تعي المملكة العربية السعودية الأخطار والتحديات التي تشكلها على أمنها واستقرارها وسلامة كيانها. ولذلك فإن صمود المملكة العربية السعودية في وجه المتآمرين عليها لن يضعف وثباتها لن ينكسر، وسترتدّ هذه السهام المسمومة إلى مصادرها بإذن الله. وما يهمنا في المقام الأول هو الحرص على تعزيز الجبهة الداخلية بكل الوسائل المتاحة، ومنع من يعمل على الإضرار بها والإساءة إليها وتأليب الأعداء عليها أياً كان. وتقوية التحالف مع الدول التي ثبت صدق مواقفها وثباتها على تعهداتها، ومراجعة السياسات والاختيارات التي لم تكن محققة للأهداف الوطنية المبتغاة، ورسم سياسات أكثر نجاعة وفاعلية، وتوظيف الطاقات الكفوءة القادرة على نفع الوطن وتمثيله التمثيل الحسن الذي يستجيب متطلبات حماية المصالح الوطنية العليا، والحفاظ على المكاسب المحققة، ويكون في مستوى المكانة التي تتبوأها على الصعيدين الإقليمي والدولي. * أكاديمي سعودي