بيروت: سوسن الأبطح لم تحظَ أي من حفلات «مهرجانات بيت الدين» هذه السنة، بالجمهور الذي زحف لحضور حفل باتريسيا كاس، مساء أول من أمس، وهي تغني للأسطورة إديت بياف. هذا مع العلم أن اليوم نفسه شهد ثلاث حفلات كبيرة في وقت واحد، فبينما كانت كاس تحيي بياف في بيت الدين، كان ديميس روسوس يغني في «مهرجان إهدن» (شمال لبنان)، وزياد الرحباني يقدم حفلا ثالثا وسط بيروت. ومع ذلك كان لكل فنان جمهوره الكبير الذي بقي مخلصا له وحريصا على متابعته. جمهور بيت الدين جمع عشاق الفنانة الفرنسية باتريسيا كاس من الجيل الجديد، ومدمني إديت بياف من جيل أكبر عمرا. كاس التي عرفت شهرة واسعة بدءا من نهاية الثمانينات حيث باعت 16 مليون ألبوم، ثم خفت نجمها قليلا، عادت بعرضها «كاباريه» عام 2008 مستعيدة من خلاله فناني ثلاثينات القرن الماضي، حيث جابت به 47 دولة. وهو ما شجعها، ربما، للاحتفاء بمرور 50 سنة على وفاة الشهيرة إديت بياف، بعرض يستخرج أجمل ما في أرشيفها. منذ عام 2011 وباتريسيا كاس تجوب المدن بهذا العرض الذي يسترجع حياة أسطورة الغناء الفرنسي، وقد سافرت به إلى 45 دولة، ليحط أخيرا في بيت الدين، وسط جمهور فرنكفوني عريض. فرقة موسيقية صغيرة ترافق باتريسيا كاس على المسرح، فثمة في البرمجات الإلكترونية ما يغني عن نقل أوركسترات كبيرة ومكلفة، وراقص واحد، وشرائط مصورة تمر على خلفية المسرح، تنقل المتفرج وهو جالس على كرسيه، من مكان إلى آخر، ومن جو إلى غيره. أطلت باتريسيا كاس في بدء الحفل بأغنية بياف الجميلة «يا إلهي، يا إلهي، اترك لي حبيبي قليلا... يوما.. يومين، أو ثمانية أيام، دعه لي لوقت كي نتحاب... لوقت يكفي لنصنع ذكريات». لم تلتزم الفنانة الفرنسية صاحبة الصوت الرخيم ببروتوكولات ورسميات، فالاستعراض روحه مبنية على التواصل مع الجمهور، وقليل من خفة الدم والفكاهة. برداء يعيدنا إلى أربعينات وخمسينات القرن الماضي، دون أن يبدو عتيقا من عصر غابر، خرجت باتريسيا كاس منتعلة حذاء عاليا، رقصت وغنت لباريس كما فعلت إديت بياف، لتنزلق قدمها وهي تدور حول نفسها، بسبب الرطوبة العالية التي تجعل المسرح مبتلا ونديا في أغلب الأحيان، في بيت الدين. وهو ما علقت عليه الفنانة بفكاهة، منذرة جمهورها بأنها ستخلع حذاءها في حال استمر الحال على ما هو عليه. قالت كاس إنها بمناسبة التحضير لهذا العرض، استمعت إلى أرشيف بياف الذي يضم ما يزيد على 400 أغنية، وأحبت أن تتقاسم مع جمهورها بعض هذه الأغنيات، وما فيها من حزن وحب وألم وفرح. «بعضها تعرفونه والبعض الآخر أقل شهرة»، تقول كاس متحدثة عن السيدة التي لا تزال عشق الكثيرين بشغف ومحبة. لم تحاول باتريسيا كاس تقليد إديت بياف بقدر ما أرادت أن تتلبس إحساسها بالكلمات، وشعورها بالعشق الذي كان يملأ جوارحها. الأغنيات التي أدتها جاءت محدثة، مع إعادة توزيع قام به أبل كورزنيوسكي، البولوني الذي أدهش هوليوود بموسيقاه التصويرية. أغنية «إنترينيه دان لا فول» الشهيرة أثارت حماسة الحضور. فبعض ما جادت به بياف لا يزال يسكن الذاكرة الفرنكفونية بقوة، ويشكل جزءا من ضميرها. على الشاشة الضخمة التي شكلت خلفية المسرح بأكمله ظهر آلان ديلون، الذي كان ذات يوم معبود المراهقات، وخبا نجمه في السنوات الأخيرة. كبر الرجل وتقدم في السن، لكنه يحضر هنا جالسا مقابل باتريسيا كاس، التي تغازله، محاولة تقمص إديت بياف. آلان ديلون لم يأتِ في العرض اعتباطا، فهو أحد أصدقاء بياف ويشارك في تقديم هذه التحية إلى الفقيدة. وفي العرض أيضا حضور لجان كوكتو، الأديب الذي مثلت له بياف دورها المسرحي الوحيد. بهذه المناسبة تحاول كاس أن تلعب دورا مسرحيا صغيرا مسترجعة هذا العمل. على الخشبة أمامنا علاقة ملابس تبدل باتريسيا كاس بما عليها من ثياب هندامها، ليتناسب شكلها مع أجواء كل أغنية تؤديها، بحذاء أو حافية القدمين، بملابس شتوية أو صيفية، فستان سهرة أو معطف صغير. يعتمد هذا العرض على البساطة الشديدة والعفوية كما التلقائية في التواصل مع الجمهور دون تكلف. ثمة رغبة في إقناعنا بأن ما نشاهده هو مجرد استعادة لبياف وليس في الأمر محاولة لتلبسها وتقمصها. نحن أمام مغنية من عصرنا، لها خصوصيتها وأسلوبها غير القابل للذوبان، لكنها شغوفة بزمن كان فيه الحب نهج حياة، وأسلوب عيش. أعادتنا كاس، بعرضها الذي كان يحتاج إلى قليل من السخاء كي يبدو أبهى، بدل اعتماد التقشف الشديد، إلى عام 1934 مع «الغريب»، الأغنية الأولى التي سجلتها إديت بياف. وكذلك عرفتنا، من خلال ضحكاتها الهستيرية المغناة، على المرأة التي جنت ولم تصدق أن زوجها تركها ليلتحق بأخرى عبر أغنية «قريبا تكون قد مرت ثلاث سنوات» التي أدتها ببراعة. تقدم كاس وصلة مع الراقص الوحيد على المسرح وهو يحملها، بينما هي تنثني وتتمايل بليونة عذبة، ثم تذهب إلى أغنية «حين يأخذني بين أحضانه» الشهيرة جدا لتضخ الحيوية في الجمهور. بعدها تأتي أغنية «لا في أون روز» التي أنشدها الحضور دون موسيقى بمساعدة كاس، وكأنه يرتل أجمل أناشيد الحب، وسط الجبال الشاهقة التي يقع فيها قصر الأمير بشير التاريخي، حيث انتهت المهرجانات بهذا الحفل، معطية موعدا جديدا الصيف المقبل. وقبل الختام بقليل، لبست كاس قفازات الملاكمة، وغنت «قصة حب جميلة»، معيدة الجمهور إلى حكاية بياف مع حبيبها، الملاكم العالمي الفرنسي مارسيل سيردان، الذي التقته في أميركا، وتوفي إثر حادث تحطم طائرة وهو آتٍ لرؤيتها في باريس. حياة إديت بياف مليئة بالفواجع والأحزان، لكن باتريسيا كاس بروحها المرحة أبقت الأجواء رطبة، ولم تتوانَ عن سؤال إحدى الحاضرات بسبب عدم توقفها عن النظر في شاشة تليفونها: «ماذا يوجد في تليفونك يا مدام؟». كاس المليئة بالحياة لم ترد أن تختم بالحزن، بل بأغنية فيها الكثير من الأمل «ريان دو ريان» التي تقول: «لا أندم على شيء... لأن حياتي، لأن فرحي، يبدآن اليوم معك». حفل رومانسي من الدرجة الأولى، عودة إلى أجواء حب وتضحيات، وألم وشجن، ما عادت نساء هذا العصر تقبل به أو حتى تجيد التعامل معه، وهو ربما يصنع كل هذا الحنين عند جمهور لا يعرف كيف يبحث عن حبه الضائع.