أسبغ عديد من الكتاب أوصافاً كثيرة على الروائي الياباني كوبو آبي؛ فمنهم من عدّه واحداً من روائيين قلائل يقفون على الساحة الأدبية اليابانية، داخلين في صراع محتدم لوراثة عرش الرواية اليابانية، الذي خلا بانتحار يوكيو ميشيما، ومنهم من سمّاه "ألبرتو مورافيا الرواية اليابانية" نظراً لمكانته البارزة في الأدب الياباني. وارتبط اسم كوبو آبي باسم مترجمه المصري الكاتب كامل يوسف حسين الذي قدّم روائع من الأدب الياباني للغة العربية والجمهور الناطق بها. في مقدمة رواية " موعد سرّي " يذكر مترجم الرواية أنّ آبي ولد في طوكيو عام 1924، غير أنه نشأ في موكدين في منشوريا، حين كان أبوه يعمل ضمن هيئة التدريس في كلية الطب. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية عاد إلى اليابان، حيث تخرج في جامعة طوكيو الإمبراطورية، بعد حصوله على درجة البكالوريس في الطب، وفي عام تخرجه أصدر آبي كتابه الأول الموسوم "لافتة في نهاية الطريق" واحتجب، شأن أبطاله، في رحلة اغتراب طويلة دامت ثلاث سنوات ليطل على قرائه من جديد بروايته القصيرة "جريمة السيد س. كاروما" التي فازت بأهم جائزة أدبية في اليابان، وهي جائزة أكوتاجاوا. وفي عام 1960، فازت روايته "امرأة الرمال" بجائزة يوميوري، وسرعان ما نقل هذا الإنجاز الروائي إلى الشاشة الفضية، وقُدّر لهذا العمل أن يفوز بجائزة التحكيم في مهرجان كان. وتتابعت أعمال كوبو آبي، فاستقطبت اهتمام القارئ الياباني ودفعت باسمه إلى مقدمة أسماء الأدباء في اليابان، وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية، وفي مقدمتها "الرجل العلبة" و"الخريطة الممزقة" و"وجه الآخر" و"مرحباً بعصر الجليد". وتتميز أعمال آبي بغرابة قد تصدم القارئ في كثير من الأحيان، خاصة القارئ الذي ألف مطالعة الأعمال التقليدية، ذلك أن أعماله هي حصر رحلات في عوالم مغتربة، إنها سفرات يقوم بها إنسان مغترب، ويدرك اغترابه ولا يكفّ عن محاولة تجاوز هذا الاغتراب، حتى عند حدود الموت. وبخصوص رواية آبي "موعد سري"، فإننا كما يقول المترجم إزاء إنسان محاصر، وهو في غمار هذا الحصار يضرب في متاهة لا نهاية لها، وتأتي النهاية حاسمة كضربة سيف من ساموراي لا يرحم؛ فذات صباح يستيقظ البطل على وصول عربة إسعاف لم يستدعها أحد، ويصرّ طاقمها على حمل زوجته إلى المستشفى، وفي غمار الاضطرابات يتم الرحيل لتندلع رحلة طويلة بلا انتهاء، يقوم بها البطل في رحاب المستشفى المقام تحت الأرض وصولاً إلى الزوجة الراحلة. "وجه الآخر" أحد الأعمال السينمائية المستوحاة من رواية لكوبو آبي. وإلى جانب كون آبي الذي رحل في كانون الثاني (يناير) 1993، روائياً فهو أيضاً كاتب مسرحي ومصور فوتوغرافي ومخترع ياباني. كما أنه شاعر نشر ديوان شعر بعنوان "قصائد لشاعر غير معروف" عام 1947. وفي الستينيات تعاون مع المخرج هيروشي تيشيجاهارا في تحويل بعض أعماله إلى أفلام سينمائية، وهي:" المأزق "، " امرأة في الكثبان" ، " وجه الآخر "، " خريطة مدمرة". وكان الأديب الياباني الحاصل على جائزة نوبل كنزابورو أوي من أصدقائه. وقال عنه إن رواياته تضارع في عظمتها روايات كافكا وفوكنر. وقال حين حصل على جائزة نوبل إن آبي يستحق أيضاً نيل هذه الجائزة، وكان آبي قد رشح فعلاً لنيلها عدة مرات. وقد شبّه النقاد أسلوبه الواقع تحت تأثير الحداثة بأسلوب ألبرتو مورافيا. في روايته الأشهر "امرأة الرمال" يرد في متنها: " بدا أن الريح انتزعت نفسه من فمه، دار حول حافة حفرة، وتسلق بقعة يمكنه أن يرى البحر منها. كان البحر صفرة متسخة . تنفّس بعمق، لكن الهواء ضايق حلقه، ولم يكن له الطعم الذي توقعه، ارتفعت سحابة من الرمال عند مشارف القرية، ربما كانت الشاحنة ذات العجلات الثلاث تقل المرأة..آه، نعم ربما، كان يتعين عليه أن يبلغها بمعنى الفخ". قيل عنه إن رواياته تضارع في عظمتها روايات كافكا وفوكنر. حكاية الروائي الياباني "امرأة الرمال" تبدأ بفقدان هائل، هو الذي يدفع البطل، أو بمزيد في الدقة بطل الضدّ هنا، إلى الخروج إلى الصحراء بحثاً عنه. ويلفت المترجم كامل يوسف حسين إلى أنّ روايات آبي مليئة بالعلامات والدلالات والمفاتيح، تلقي الضوء على الأسرار. يقول آبي: فجأة تدفق في أعماقه أسى بلون الفجر، بمقدورهما على حد سواء أن يلعق أحدهما جراح الآخر، لكنهما سيظلان يلعقان إلى آخر الدهر، ولن تبرأ الجراح أبداً، وفي نهاية المطاف سيهترئ لسان كل منهما". وتصف الكاتبة العراقية عالية ممدوح رواية "امرأة الرمال" بأنها "رواية خانقة، مستفزة، صادمة، غير مريحة أبداً، لكنني لم أستطع تركها جانباً قط. مفتاحها الوحيد؛ كيف ننشغل بالفناء في كل ثانية ونحن نواجهه كل ثانية فنقوم بازاحته جانباً، فلا يدوم فعل المقاومة إلا دقائق قليلة وهكذا. حكاية شاقة، مؤذية. أبداً وأترك ثم أعود. الكاتب يسدد ضربة للقارئ، وهو عاجز عن غشه، فالرمال سوف تنسل عليه هو أيضاً. كل صفحة أقرأها كنت أتصور أن الرمال ستغطيني، وأن هذا الرمل كلما حاول الرجل والمرأة رفعه وتنظيف المكان منه، يعاود ودون انقطاع، لا يتخلى عن الهدف: خنقنا". تبدأ الرواية هكذا، كما تقول عالية ممدوح: "اختفى رجل، ذات يوم من أيام أغسطس. وكان قد انطلق في إجازة على شاطئ البحر، ثم احتجبت أخباره، والتحقيق الذي أجرته الشرطة والاستفسارات التي نشرت في الصحف كانت بلا طائل". وتعلق الكاتبة العراقية: حين قرأت هذا المقطع، قلت، عال، هذه رواية تستنهض الخبرة في اكتشاف القاتل، أو السجان، إلخ. فإلى أين يمكن أن يذهب ويختفي الرجال عادة؟ هذا الرجل جامع حشرات، كان يضع فوق ظهره حقيبة خاصة لهذا الغرض لصيد أقل الحشرات حجماً. فنقرأ رأياً جديداً عن هذا النوع من الأعمال: "غالباً ما يشير الانشغال غير المألوف بجمع الحشرات إلى عقدة أوديب؛ فالطفل لكي يعوض عن رغباته التي لم يتم إشباعها، يستمتع بغرس الدبابيس في الحشرات التي لا مجال للخوف من هربها قط، وقد تراوده رغبة حادة في التملك وأنهم وإلى حد بعيد يميلون إلى العزلة، ويصابون بالسرقة المرَضية". نذهب مع هذا الرجل الذي تشي المعلومات عنه، أنه قد يكون حاملاً لبعض تلك الصفات، أو كلها. فيدخل في متاهة الرياح والعواصف والأمطار، وندخل معه أيضاً في طقس اليابان: تسونامي من العبقرية. الإبداع من نوع كهذا هو أيضاً، وفق عالية ممدوح، يشكل رعباً نادراً فيومئ إلينا قائلاً: "الرمل تجمع لشظايا صخرية، يشمل في بعض الأحيان حجر المغناطيس. فتحدث تيارات الهواء والماء اضطراباً هائلاً، وأصغر طول موجة في هذا التدفق المثير للاضطراب يعادل تقريباً قطر حبات رمال الصحراء. إنّ تدفق الرمل أمر لا مناص منه. يغزو سطح الأرض فيلحق الدمار به". وعن خصوصيات الأدب الياباني، يتوقف الكاتب عدنان المبارك عند كوبو آبي ويوكيو ميشيما كونهما الكاتبين الكبيرين الذين وضعا أكثر من أساس لأدب اليابان المعاصر. كلاهما ينتمي إلى الجيل نفسه. الأول لا يزال يُعامَل كمتمسك بالتقاليد اليابانية ووريث كاواباتا. الثاني معاد للتقاليد. ميشيما حشر في قالب واحد: إنه ذاك المتطرف في نزعته المحافظة، رغم أنّ دوراً لا يستهان به في تشكيل شخصيته الأدبية قد لعبه الأدب الأوروبي. ومرة اعترف بأن قصته "الموت في عز الصيف" تملك بنية كما لو أنّ التراجيديا اليونانية قد قلبت رأساً على عقب، وهو ما يعني نقضاً لتقاليد الأدب الياباني. آبي يعتبر كاتباً من كتاب الشمولية universalism، وهو مفهوم في كل أرجاء العالم، ما يعني أنه قد ابتعد عن التقاليد وصار كاتباً "غير ياباني" يتكلم أدبه عن لا عقلانية وجود الإنسان المعاصر، في حين أن هناك بين باحثي الأدب من غير اليابانيين من يجد أن آبي ليس بالأساس، شمولياً للغاية، كما ليس من السهل أيضاً ترجمته إلى اللغات الأوروبية مثلاً، رغم أنه يعلن ولأكثر من مرة أنه لا يدين أبداً بالفضل للتقاليد اليابانية، وهو موقف لا يطابق واقع أدبه؛ فكامل أدبه ينضح بـ (يابانيته)، رغم التقنيات الشمولية التي لجأ إليها.