استكمالاً لموضوع الأسبوع الماضي والذي تم التطرق فيه إلى موضوع المسلسلات التاريخية وما فيها من سلبيات وإلايجابيات وختم الحديث بإثارة التساؤلات عن مدى توافق ما يطرح في هذه المسلسلات من حقائق تاريخية؟ وما مدى دقة الحصول على المعلومات التاريخية وتوظيفها!! فالمعروف أن كتب التاريخ العربي الإسلامي تحتوي على معلومات بعضها غير موثق أو من روايات متقصدة لتشويه سير أفراد أو مغالطات لتأييد وجهات نظر معينة للمؤرخ أو للجماعة التي ينتمي إليها, أو الفئة التي يؤيدها. فالتاريخ الأموي على سبيل المثال شوه كثيراً بعد سقوط هذه الدولة فداخلت تواريخ خلفائه وقادته شوائب كثيرة متقصدة لإعطاء صورة قبيحة عنهم ولتبرير سقوطهم أيضاً. ثم في العصر العباسي وعصور تلت شوهت أيضاً صور وأحداث وقعت أثناء هذه الدولة بحيث يصعب الأخذ بها إلا بعد التدقيق والتمحيص فعلى سبيل المثال نجد صورة مثالية للخليفة هارون الرشيد توضح أنه كان يجاهد وكان عابداً وعادلاً, وفي مقابل هذه الصورة يأتي من يقدم الرشيد على أنه رجل لهو ولعب يتعاطى الموبقات, وقس على ذلك أحداث وشخصيات كثيرة تتضارب الروايات عند الحديث عنها. والأمر ذاته ينطبق على تاريخ الدولة العثمانية ووجودها في البلاد العربية إذا وصفت بأنها دولة مستعمرة, وأنها كانت وراء رجعية وتخلف البلاد العربية عدا طغيانها واستبدادها بالحكم والذي تظهره كثير من المسلسلات التي تعرضت للحقبة العثمانية. وهناك سؤال يطرح على من يقدم لنا دراما تاريخية لتكون مسلسلاً تلفزيونياً: ) هل عليه الأخذ برؤية واحدة أو رؤى متعددة؟ ) وهل من حقه الجمع بين كل ما قيل في شخص بعينه من سلبيات وإيجابيات دون تمحيص محتوى الروايات وتدقيق مدى صدقيتها؟ ) ومن ثم من يقوم بمثل هذا التمحيص والتدقيق قبل خطوات تحويله إلى عمل منفذ؟ ) وما نسبة الحقائق إلى الإضافات الخيالية التي قد يقحمها بدواعي الفنية وطلب الانتشار؟ إننا عندما نستعرض عناوين المسلسلات التاريخية نلحظ التركيز على شخصيات خلافية مثل الحجاج بن يوسف الثقفي, وأبي جعفر المنصور, والمختار الثقفي, فعند تقديم مثل هذه الشخصيات هل المقصد هو إبراز دور هؤلاء في التاريخ الإسلامي كما كان عليه أم البحث عن مكامن الضعف أو السلبيات لإبرازها أو محاولة إلصاق اتهامات مستقاة من روايات قد لا تكون صحيحة تعبر عن مواقف مذهبية وطائفية كما هو الحال في مسلسلات قدمت عن الحسن والحسين رضي الله عنهما تنطلق الرؤية فيها حسب الجهة المنتجة. فإن كان من السنة استخدمت المصادر السنية وقدم حسب رؤية أهل السنة والجماعة في الحسن والحسين (رضي الله عنهما)، وفي المقابل إن كان الإنتاج من جهة شيعية جاء المسلسل على نحو مغاير تماماً لأن طريقة المعالجة والموقف يختلف بين الفئتين. وقد يكون بعضها معبراً عن حماس قبلي وعصبية كما هو الحال في مسلسل القعقاع بن عمرو التميمي وهو مسلسل حاز على الإعجاب والرضا, ولكن هل جاء الاهتمام به كونه قائداً إسلامياً؟ أم لانتمائه القبلي؟ والمعروف أن هذه الشخصية عليها خلاف خاصة بين السنة والشيعة وليس هنا مجال للتوسع في هذا الموضوع. وهناك مسألة أخرى, وهي عدم التوفيق في تقديم الشخصية فمثلاً في مسلسل عمر الذي يحكي سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه), هذه الشخصية التي عرفت بصلاتها وتأثيرها منذ أن كان صاحبها يعيش عصر الجاهلية إلى تحوله إلى الإسلام وهو ما لم يظهر في المسلسل بالقوة والحجم نفسه. مجمل القول إن مع أهمية الدارما التاريخية ودورها المؤثر وضرورة وجودها إلا أننا في حاجة لإعادة النظر في أمور كثيرة سأذكر بعضاً منها فيما يأتي: 1- ضرورة توثيق المعلومات وتدقيقها والاعتماد على الروايات الصحيحة واستبعاد المعلومات التي تحمل التضخيم والتهويل. 2- اختيار الشخصيات المؤثرة الحقيقية دون النظر إلى الانتماءات أو التوجهات. فلا يكون هناك محاولة لإسقاط أو تمرير أفكار من خلال إبرازهم في هذه المسلسلات. 3- ضرورة أن يسهم في إعداد هذه المسلسلات أساتذة من المشهود لهم بالكفاءة العلمية ومن المتميزين في تواريخ الفترة التي ينتمي إليها المسلسل وأن تكون لهم أعمال مسبقة في المجال. 4- الوضع في الاعتبار أن يكون الهدف من هذه المسلسلات جمع الناس وليس إثارة روح الفرقة بينهم وأن تكون سبباً في بعث الحماس في نفوس الأجيال المعاصرة. 5- من المهم التركيز على الشخصيات العلمية ممن أثروا في المسار العلمي الإنساني كافة كيعقوب بن إسحاق الكندي, جابر بن حيان, وفخر الدين الرازي, ومحمد بن موسى الخوارزمي, وابن النفيس ونماذج كثيرة إذ لعلها تعيد الإنسان العربي إلى جادة العلوم الطبيعية والتطبيقية. ختاماً: إن الحاجة إلى الدراما التاريخية ضرورة في هذا العصر ولكنها تحتاج إلى ضوابط علمية وفنية تراعي الحقائق التاريخية الدقيقة وتتجنب الإسقاطات الطائفية أو الإقليمية وتنتج على مستوى كبير لتبقى ولتنافس الأعمال الدرامية التاريخية العالمية.