قلنا في المقال السابق, ان الانتخابات النيابية لمجلس النواب الثامن عشر كشفت عن أسوا ما فينا, وأظهرت أننا مجتمع هش مفرغ بلا أطر, وأنه بسبب غياب الأطر القادرة على فرز القيادات, حلت أدوات فرز مختلفة, وبالتالي ظهرت أساليب مختلفة للوصول إلى البرلمان, أبشعها تكريس ظاهرة المال الأسود الذي يستخدم في عمليات البيع والشراء, التي تطورت في انتخابات مجلس النواب الثامن عشر, فبعد أن كانت عمليات البيع والشراء في انتخابات بعض المجالس السابقة مقتصرة على شراء أصوات الناخبين توسعت هذه العمليات في الانتخابات الأخيرة لشراء المرشحين لتكوين القوائم, استجابة لاشتراطات قانون الانتخاب, فظهر ما سمي بالمصطلح الشعبي مرشح «الحشوة», وتكونت ما يمكن أن نسميه بقوائم «السفله والفعله» فلو لم تكن عمليات البيع والشراء في الانتخابات «سفالة» لما اعتبرها القانون جريمة رتب عليها عقوبات. ذلك أنه ليس هنا ما هو أسوأ وأسفل من أن يبيع المرء نفسه ومواقفه, مقابل حفنة دنانير, كما فعل بعض الذين قبلوا أن يكونوا «حشوات» في الكثير من القوائم, ومجرد ديكورات وتكميل عدد في معظم القوائم. وإذا كان بعض المرشحين قد اضطر لشراء «السفله» لإكمال قوائمهم, فإن بعضهم الآخر اضطر لشراء «الفعله» من عمال التراحيل على حد وصف أخوتنا في مصر, وهم هنا شريحة من الناس لا علاقة لها بالسياسة والانتخابات, ولا تفهم معناهما, إما لأميتهم الشديدة, أو لسطحيتهم الأشد, لكن بعض أفراد هذه الشريحة يتطلعون إلى تحقيق ذواتهم في مجتمعاتهم الصغيرة, حتى لو كان ذلك بطرق ملتوية وغير سليمة كالقبول بأن يكونوا مجرد «حشوة» أو رقم زائد كما فعل بعض «الفعله», الذين ظهرت أسماؤهم في بعض القوائم الانتخابية, دون أن يكون لهم دور في العملية الانتخابية يتخطى ظهور الاسم في القائمة. لقد كنا نتمنى أن تظهر في بلدنا قوائم انتخابية تمثل بعضها طبقة العمال وأخرى تمثل رأس المال الوطني و أخرى تمثل توجهات سياسية أو اجتماعية....الخ, كما في سائر الدول المتحضرة والمتقدمة, ففي كل البلاد الديمقراطية تتشكل القوائم الانتخابية إما على أساس حزبي, أو على أساس مهني وحرفي, أو على أساس اجتماعي, إلا في بلادنا فإن القوائم تتشكل هكذا خبط عشواء, لا يجمع أعضاء غالبيتها رابطة, من فكر أو مهنة أو طبقة اجتماعية أو اتجاه سياسي, كما حدث في انتخابات مجلس النواب الثامن عشر, التي قدمت لنا دليلاً جديداً وملموساً عن حجم الهشاشة التي وصل إليها مجتمعنا, ومدى الفقر الذي وصل إليه من حيث غياب أطر اعداد وفرز القيادات في كل المجالات, وأبرزها القيادات البرلمانية وكيف صار مجتمعنا مجتمعاً تلفيقياً, عكست ذلك القوائم الانتخابية التي أفرزها, والتي لم تأخذ في غالبيتها الساحقة طابعا سياسياً ولا مهنياً ولا طبقياً, ولكنها كانت في غالبيتها الساحقة تلفيقاً بين متناقضات أجبرتها اشتراطات القانون على التوافق الملفق مرحلياً. ليست عملية شراء وبيع الناخبين والمرشحين هي الخلل الوحيد, الذي أظهرته الانتخابات البرلمانية, في أساليب العمل للوصول إلى البرلمان, فقد كرست هذه الانتخابات خللاً آخر في ممارساتنا الانتخابية, فبسبب غياب الأطر القادرة على فرز القيادات وتقديم البرامج, صار النفاق الاجتماعي أحد أهم وسائل الوصول إلى قبة البرلمان, وصارت مواسم الانتخابات في بلادنا نيابية أو بلدية أو نقابية مواسم للنفاق والتكاذب الاجتماعيين, فالمرشح يعد الناخبين بتحقيق مالا يؤمن به, مثلما يعدهم بما يؤمن أنه غير قادرعلى تحقيقه, أماالناخبون فيعدون كل مرشح يزورهم أو يتواصل معهم بدعمه وانتخابه, فينام جل المرشحين على أحلام حريرية,يرفضون معها أي رأي ناصح يخالف أحلامهم, حتى توقظهم منها كوابيس يوم إعلان النتائج, وهذا النفاق والتكاذب الاجتماعيين اللذين تظهرهما مواسم الانتخابات في بلدنا,يكشفان عن عيب آخر في حياتنا عموماً, وفي حياتنا السياسية على وجه الخصوص, يتمثل في غياب الوضوح في الرؤية والعلاقات, وهو الوضوح الذي غاب بسبب غياب الأطر القادرة على وضع الرؤية والبرامج وتحديد العلاقات وفرز القيادات على ضوء هذه الرؤية. ما تقدم ليس هو كل ما كشفته الانتخابات النيابية الأخيرة, من أساليب عمل ملتوية, للوصول إلى قبة البرلمان, فقد أضافت هذه الانتخابات أسلوباً ملتوياً جديداً, تمثل في الشعوذة الدينية والعزف على أوتار العاطفة الدينية لبسطاء الناس, فكثرت أحاديث الرؤية, والبشارات الدينية, والتكليف السماوي للمرشحين, بخوض الانتخابات, وغير ذلك من صور استغلال العاطفة الدينية, ولو بالشعوذة والدجل للوصول إلى القبة, وهذه أخطر الاختلالات التي أصابت أساليب العمل للوصول إلى البرلمان في بلدنا, لأنه اختلال يريد أن يجعل من الشعوذة وسيلة لفرز قيادات سياسية, فهل سيظلنا زمن تملأ فيه «الحجب» فراغ البرامج السياسية في بلادنا؟ الراي