تحقيق: زكية كردي الأهل أولاً، هكذا يرتب بعض الشبان أولوياتهم في الحياة، فيضعون أنفسهم في الدرجة الثانية بعد الصورة الجميلة للأسرة، والتي يقاتلون الظروف، ربما من أجل الحفاظ عليها، ربما يستغرب كبار السن من تسليط الضوء على هذه الفئة، التي تقوم بتصرف معتاد ومتوقع، كما كان الحال قديماً، لكن مع تغير معايير السلوك، والاتجاه نحو الأنا أكثر فأكثر، صار هؤلاء الشبان أشبه بمنارة جميلة، تضيء لنا طريق العودة إلى الطبيعة البشرية، التي فطرنا عليها، والقائمة على العطاء، والتضحية من أجل الأسرة، والتي لطالما توارثتها مجتمعاتنا العربية لأجيال وأجيال، وما زالت تورثها للجيل الجديد، كما سنرى في التحقيق التالي: يفضل حسن فالح طالب إعلام إلكتروني، العمل مع والده في المحل لمساعدته على قضاء الوقت مع الأصدقاء، والاستمتاع بممارسة الأنشطة الشبابية، ويقول: يمتلك والدي معرضاً للسيارات، ويحتاج إلى من يثق فيه ليريحه في العمل، فرغم أن لديه العديد من الموظفين، إلا أنني أشعر بالراحة، التي يوفرها له وجودي إلى جانبه، ولهذا اعتدت أن أتواجد معه في المعرض مذ كنت في الصف السابع، وعن طريقته في تنظيم وقته يوضح بأنه يخصص الفترة الصباحية للجامعة، والفترة المسائية للعمل مع والده، مشيراً إلى أنه يولي الأهمية بالدرجة الأولى إلى مساعدة والده. عشر سنوات قضتها زهرة عبدالعزيز ربة منزل، في خدمة والدتها المصابة بالزهايمر، لم تفارقها فيها إلا نادراً، وتقول: لم أكن أثق أن أحداً من إخوتي الستة، يقوم على رعايتها مثلي، فأنا صغيرتها والأقرب إليها، وكنت أخشى أن ينشغلوا عنها، أو أن ينفعلوا بغضب، إن اضطروا للقيام بأشياء لا يمتلكون القدرة على تحمل القيام بها، خاصة وأنها كانت قد فقدت القدرة على الحركة تماماً في السنوات الأخيرة، ونسيت حتى كيف تمضغ الطعام، ولهذا كنت أحرص على الوجود قربها طوال الوقت، لأحركها بين الحين والآخر، حتى لا يتسلخ جلدها وتؤلمها عضلاتها، وكنت أقوم بعمل مساج دوري لها، لأعوض عدم قدرة العضلات على الحركة، وتؤكد أن العالم أصبح كئيباً وخاوياً منذ رحيل والدتها قبل ثمانية أشهر، فمنذ سنوات، اعتادت أن تعمل على خدمتها حتى لم تعد تعرف ماذا تفعل في الحياة بدون والدتها. ولأنه لم يكن يحب المدرسة كثيراً، قرر أحمد شعيب موظف حكومي، أن يدخل سوق العمل منذ انتهائه من المرحلة الثانوية، ليساهم في مصاريف العائلة، ويدعم إخوته الأصغر، ويقول: أعرف أن تركي للدراسة بعد الثانوية، كان مخيباً لآمال أهلي، لكن بعون الله استطعت الحصول على وظيفة محترمة وملائمة، وفضلت أن أؤدي واجبي تجاه أسرتي، خاصة أن الأحوال تغيرت في السنوات الأخيرة، بعد أن كبر إخوتي الصغار وصاروا يحتاجون للكثير من المصاريف، لهذا أعتقد أنني اتخذت الخيار المناسب. مثله فعل فاضل عمران مدير فرع في شركة شحن، حيث اختار أن يبدأ الحياة العملية باكراً، رغم رفض والديه التام، فهما من حملة الشهادات العالية، لكنه لم يكن يرى جدوى في الدراسة، بل يؤمن بأن المهارات التي تتناسب مع التطور التكنولوجي في عصرنا، هي الأكثر أهمية، ولهذا كان يركز على تطوير هذه المهارات، ويقول: لم يكن ثمة حاجة لمساهمتي في مصروف العائلة، لكني كنت أجد متعة في رعاية أخويَّ الأصغر مني، وتحمل مصاريفهما، فأنا الأخ الأكبر، وقد تربيت على الحب، وتعودت أن أساهم في التدريس لهما، ودعمهما، لهذا كنت أجد سعادتي في توفير احتياجاتهما، والشعور بقدرتي على تحمل مسؤوليتهما. لكن الظروف لم تترك خياراً أمام زينة خضر طالبة جامعية، التي وجدت نفسها مضطرة للوقوف إلى جانب والدتها بعد انفصالها عن والدها، وتقول: لم يكن ثمة مجال للتفكير، فراتب أمي وحده لا يمكن أن يكفينا أنا وهي وأخي، خاصة أن مصاريف الجامعة ليست سهلة، لهذا اخترت أن أتوقف عن الدراسة، لأبدأ في العمل، فلم يكن الحصول على عمل يتناسب مع أوقات الدوام سهلاً، بالإضافة إلى أن مصاريف الجامعة، لم تكن متوفرة حينها، لكن كما يقولون الأوقات السيئة لا تستمر، فأنا لم أضطر للتوقف عن الدراسة، إلا لعام واحد، حتى تحسنت الأحوال، فتابعت دراستي الجامعية، ووجدت وظيفة أفضل، وأختي أيضاً استطاعت الحصول على عمل. في المقابل لا تكون الظروف وحدها هي السبب، بل التجارب السلبية التي تدفعنا لنتصرف بشكل معاكس، وهذا ما حصل مع جاد محمد طالب جامعي، الذي بدأ بالبحث عن عمل رغم أنه قد انتسب للجامعة تواً، ورغم أن الوضع المادي للعائلة مقبول، وليس مضطراً لذلك، وعن السبب يقول: توفي والدي مذ كنا صغاراً، وتولى جدي مهمة مساندة الأسرة في مصاريفها، بالإضافة إلى راتب والدتي، واستساغ أخي الأكبر الموضوع، فاعتاد أن هناك من يتحمل مسؤوليته، ويصرف عليه، وبدل أن يفكر بأن عليه أن يريح جدي وأمي، ليحمل المسؤولية معهما، أو يريحهما من مسؤوليته على الأقل، صار يتعذر بصعوبات الحصول على عمل، ولا يقبل بالوظائف التي استطاع المحيطون تدبيرها له كبداية، ويضيف أن تصرف أخيه الأكبر على هذا النحو يستفزه، ويجعله يشعر بالحنق، لهذا بادر بالتصدي لمساندة والدته، ولو بجزء بسيط حسب إمكانياته ليطمئنها على أنه لن يكون مثل أخيه. العامل الوراثي مهم عن العوامل التي تجعل الشاب يتحمل المسؤولية، ويرغب في مساندة أسرته، أو تمنعه من ذلك، يخبرنا د. موسى شلال أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمارات، أن هذه الحالة تحكمها ظروف عدة، وعوامل عدة، منها الشخصية، ومنها ما يتعلق بالأسرة، ومنها ما يحدده المجتمع. ويقول: الوضع الاقتصادي للشاب، أو الأسرة يلعب دوراً كبيراً في توجيه سلوكه نحو أسرته، فإذا كان وضع الأسرة جيداً، وطلب الأهل من الشاب المساهمة في المصاريف، على الأغلب لن يستجيب، إلا إذا كانت لديه دوافع ذاتية، وأراد هو أن يساهم، أما العامل الثاني فيتعلق بالمكان والظروف التي تحكمه، فعندما يعمل الشاب في بلد غير بلده الأصلي، ويجني أكثر بكثير مما يجنيه الشبان في وطنه، نجده يتحمل مسؤوليات الأسرة لقدرته المادية التي تفوق قدرات أقرانه، وأيضاً لا ننسى أن للتنشئة الاجتماعية دوراً مهماً وكبيراً جداً، في خلق هذا التوجه لدى الأبناء. ويضيف: النظريات أثبتت أن العامل الوراثي يلعب دوراً مهماً في السلوك العام للأسرة، فالأسر الجدية تورِّث هذا السلوك لأبنائها. ويلفت إلى دور العامل الديني، خاصة في عالمنا العربي، فهناك توصيات صريحة توصي بالاعتناء بالأهل.