يبدو أن «الربيع العربي» اختفى من الأعيان وليس من الأذهان كما يقول أهل المنطق، فالصخب السياسي الذي يرافق كل مرحلة من تطورات الأزمات السياسية المتلاحقة في المنطقة يثبت أن طريقة تناول القضايا السياسية وفرزها لا تزال تتبع أسلوب وتكنيك «المدرج» الرياضي بما يعنيه من جمهور يهتف للفوز وآخر يبرر الخسارة في حين أن مباراة «الربيع العربي» قد انتهت مبكرًا، وحتى تونس التي بدت الوحيدة فوزًا ليست هي تلك التي خاضت الربيع، بل يمكن القول إن انقلابًا ناعمًا على إرث الربيع أرجع الدولة إلى أحضان ثقافة الشارع المغايرة للأوطان العربية باعتبار أن الإسلام السياسي أقلوي وطارئ بينما تنعم الأحزاب السياسية بمنزعها الليبرالي واليساري بقواعد جماهيرية وخطاب متماسك وسنوات طويلة من العمل والخبرة السياسية. لا صوت يعلو على الاحتفالات الصاخبة اليوم بالاصطفاف لصالح سياسة إردوغان الخارجية ومحاولة الزج بمصر التي تعاني من ترهل على مستوى الرؤية بسبب ضغط الداخل والاقتصاد والتهديدات المتلاحقة منذ لحظة العودة إلى أحضان الدولة بعد اختطافها بشكلانية ديمقراطية أضمرت مضامين راديكالية وسلطوية وشمولية، والسلوك السياسي المصري هو أقرب إلى المحافظة على إرث التوازنات المصرية من خلق توازنات جديدة يفرضها المشهد بعد أن ألقت دول الخليج بكل ثقلها من أجل مصر الدولة وليس النظام السياسي، وهو أمر يمكن تتبعه عبر التاريخ منذ مواقف الملك فيصل وصولاً إلى الأزمات المتلاحقة مع نظام عبد الناصر وحتى صعود الإخوان برافعة مرسي والانتخابات التي لم تبعد السعودية عن مصر. المدرج السياسي وهتيفة الشعارات والتحالفات قصيرة النظر والسريعة يحاولون الزج بثقل السعودية كل مرة منذ انفجار ثورات الربيع العربي بهدف حثها على الانتقال من دعم الدول واستقرارها السياسي إلى دعم الأنظمة والأحزاب، وهي أدوار تمارسها إيران بامتياز وتزيد عليها بتبني الميليشيات والمعارضات المبنية على مصطبة الطائفية أو التحزب الديني، وهو أمر تمارسه للأسف نخب سعودية لديها مشكلة كبيرة تتمثل في الولاء الكامل لرؤية الدولة داخليًا في ظل العزف المنفرد وربما الضار بالسياقات الخاصة والمعقدة لحالة لا تتحمل التسطيح والمواقف السريعة كالحالة المصرية السعودية. هذا التناقض على مستوى الرؤية والتبني تجلى بشكل كبير في الانحياز للفريق الخاسر بل والذي يبدو أنه خرج من المشهد كالإخوان في ظل أن الجماعة غير الأم في الأردن والمغرب ومواقع أخرى تقوم بمراجعات تقترب من الانسلاخ للذات بغض النظر إن كان ذلك من أجل العملية السياسية أو يتم بشكل مبدئي، فالأمر في النهاية هو قطع العلائق بين التداخل المعقد للديني والسياسي والذي كان إحدى أزمات المشهد بعد الربيع العربي. من حق أي شخص أن يتبنى المواقف السياسة التي يختارها إن كان في حدود التحليل والرأي الشخصي، إلا أن لغة مواقع التواصل الاجتماعي توحي بخلق نجوم جدد في التحليل السياسي والاقتصادي انتقلوا من مربع الرأي إلى ممارسة التحشيد والتأليب السياسي بأدوات غير سياسية، وهو يحيل إلى ضرورة قراءة علمية لخطابات المنظومات الآيديولوجية ومناصريها وأثرها على الذهنيات والتحولات الاجتماعية. الواقع السياسي اليوم لا يحتمل مثل هذه القفزات البهلوانية في المواقف على طريقة التشجيع الرياضي، فهو واقع شديد التعقيد والتنوع ويجب أن يظل محاطًا بأسوار مصالح الدولة القطرية- الوطنية لا سيما مع التحديات الاقتصادية الهائلة التي نعيشها وتردي الخطاب السياسي في العالم، وآية ذلك التردي تراجع حضور المؤسسات الكبرى كالأمم المتحدة التي يقال الكثير هذه الأيام عن نزاهة الانتخابات التي ستأتي بخليفة بان كي مون، كما هو الحال في مضمون المناظرات الرئيسية بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب والتي فاجأت أغلب المتابعين حيث بدت صراع ديكة وحوارات الاتجاه المعاكس منها إلى محاولة إقناع الناخب برؤى سياسية واضحة ومحددة. في عالم السياسة اليوم لا يوجد مكان للمخلص الفرد أو القائد الملهم كما يطرح اليوم، لذا من الخطر جدًا أن يمارس بعض المحللين الذين انتقلوا من مربع السياسة إلى مدرج الشعارات، مفهوم تذويب الدولة القطرية بمفهومها القومي للدولة التي يجب احترام معاهداتها وتحالفاتها الخارجية بمثل الثقة التي تحوز بها في سياساتها الداخلية والمحافظة على الاستقرار لا سيما أنها نجحت في تخطي تحديات كثيرة من الربيع العربي إلى الإرهاب إلى تصدعات الاقتصاد. الأمر الذي يجهله نجوم المدرج السياسي هو أن التحالفات السياسية لا تعبر عن احتياج أو ضعف أو يمكن قياسها بمدى التطابق في القضايا الدولية بقدر أنه إحساس بالمصير والمسؤولية المشتركة وفق محددات أساسية سيادة الوطن وأمن حدوده، والحرب على الإرهاب، وتحقيق حد أدنى من التعاون المشترك. الدول التي خرجت من رحم الربيع العربي ووقعت في أزمات الإرهاب والحملات المضادة والتحديات الاقتصادية تحتاج إلى وقت طويل للنهوض والتي ستستغرق مع الاستقرار السياسي وقتًا أطول للعب أدوار إقليمية. يجب عدم استغلال التغول الإيراني لتمرير أجندات حزبية أو طائفية أو محاولة الإملاء السياسي، فالإشكالية اليوم رغم كل هذا الصلف من ملالي طهران ليست في المأزق الطائفي في شكله العقائدي لأسباب كثيرة منها أن كمونه وفورانه مرتبط بالحالة السياسية وليس نتيجة إنهاء وحسم المسألة تاريخيًا. يجب أن تتعالى أصوات عاقلة المشهد السياسي اليوم، وعدم استعجال إطلاق الأحكام العامة وممارسة التحليل السياسي الرغبوي المبني على الانحياز لذلك الفريق السياسي أو ذاك الفصيل لأننا ما سنجنيه من هذا التحشيد هو أن تستحيل الدول المستقرة التي خرجت من دوامة الربيع العربي إلى دول بداخلها دول عميقة منحازة سياسيا، فمن حق الأجيال الجديدة ألا نحملها مواقفنا السياسية التي نجترها معنا رغم تغير الظروف، وهو ما نلمس آثاره اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي من نشأة خطابات ثورية لا علاقة لها بالسياسة تتسم بالفوضوية وأزمة المحتوى واستعجال الطرح، وهو ما يلقي بمسؤولية أكبر في إنتاج برامج وسياسات طويلة المدى ذات تأثير اجتماعي يلائم أولوية الوحدة الوطنية في وقت يعلم الجميع كما قال مؤخرًا ولي العهد السعودي إن المملكة مستهدفة بشكل غير مسبوق. والحق يقال: إن المملكة حافظت على عقلانيتها طول الخط؛ أشادت باحترام رغبة الشعوب، جرّمت «القاعدة» وأخواتها وفي نفس الوقت لم تسقط ولو مرة في فخ الاستقطاب الطائفي، دعمت الجيش اللبناني، حشدت «حزب الله» و«القاعدة» و«داعش» في ذات المربع، وقفت مع العراق في أكثر فترات هجوم المالكي عليها، وأخيرًا ترفض أي تقسيمات سياسية طائفية، وفي الوقت ذاته الذي حمّلت فيه المجتمع الدولي مسؤوليته الأخلاقية في سوريا. هذه المواقف يجمعها خيط واحد وهو دعم استقرار ورفاه المنطقة والشراكة المسؤولة مع جميع الأطراف.