عندما أنجز الإيرانيون اتفاقهم النووي عام 2014 مع الأميركيين وبقية أعضاء الـ5+1 أقبلوا على «شكر» أولئك الذين ساعدوهم في الوصول إلى ذلك الاتفاق «التاريخي» كما سموه؛ فبدأوا (ظريف وجعفري) بـ«حزب الله»، ثم سموا عددا من الدول بينها روسيا والصين! وفي تلك الفترة صادفت في بيروت مسؤولين من حماس والجهاد الإسلامي، فوجدتهم غاضبين وخائبين، وظننت أن ذلك يعود للأزمة السورية التي أساءت لعلاقاتهم بالإيرانيين بسبب عدم انحيازهم المعلن لبشار الأسد كما فعلت فصائل فلسطينية أخرى؛ فأجابني الحماسي متحمسا: بل نقصد ما عبّر عنه الإيرانيون من شكر للجميع وفي طليعتهم الحزب، وما ذكروا شيئا عنا، نحن الذين خضنا حروبا طلبها منا الإيرانيون فأدت، إلى جانب إجرام نتنياهو، إلى خراب قطاع غزة! وقلت: كيف استطاعوا إرغامكم على التسبب بخراب بلدكم؟! وقال الحماسي ثانية: إن الجهازين العسكري والمدني يتطلبان إنفاقا هائلا، وإذا كنت أو صرت تابعا في الإنفاق، يصبح قرارك بالحرب والسلم غير مستقل، ويكون عليك أن تصغي لرغبات الممول في الزمان والمكان! وقلت: أنتم إذن متضررون الآن؟ فأجاب: ونحن أكثر من الجهاد الإسلامي بسبب حجمنا وإمكانياتنا. وأنتم إذن عائدون إلى الحضن الدافئ؟ فقال: نعم، وعاجلا أم آجلا سيعود «الجهاد» أيضا. وستجاهدون هذه المرة في فلسطين؟ قال: لا، لأن الأميركيين اتفقوا مع الإيرانيين على المهادنة تجاه إسرائيل! يعترف بعض الحماسيين إذن أنهم وبالتدريج، صاروا منفذين لأهداف السياسة الخارجية الإيرانية، والتي ما كان دعم القضية الفلسطينية مهما عندها، وإنما الضغط على الولايات المتحدة من أجل فك الحصار، وغض الطرف عن استراتيجيات إيران تجاه المنطقة العربية. ففي وقت مبكر (العام 1985 – 1986) ما كان عند الإيرانيين مانع من التعامل مع إسرائيل، وأخذ السلاح منها، وقد أعدم الإيرانيون بعض الذين أفشوا خبر هذه الصفقة، باعتبارهم خونة للمصالح الوطنية الإيرانية! يعترف الإيرانيون الإسلاميون، وغير الإسلاميين، أن نقطة الضعف الأميركية في منطقة الشرق الأوسط هي الأمن الإسرائيلي. ولذا وتحت عنوان تحرير الأرض اللبنانية وتحرير فلسطين لاحقا، أنشأوا «حزب الله»، واستتبعوا الجهاد ثم حماسا فضلا عن تنظيمات أخرى غير إسلامية، واستخدموها ضد إسرائيل أحيانا، وأسكتوها أحيانا أخرى حسبما تقتضيه مصالحهم الباقية فوق كل اعتبار، والآن تقاتل إلى جانب الميليشيات الإيرانية بسوريا فصائل فلسطينية قومية ويسارية، من بينها جيش القدس، وشأن جيش القدس في العلاقة بإيران، مثل شأن الإرهابيين الذين يسمون أنفسهم بيت المقدس، ويقاتلون الجيش المصري بسيناء من سنوات، وربما كانت لهؤلاء أيضا علاقات بإيران، إذ تلقوا سلاحهم من قطاع غزة! إن المقصود ليس شيطنة إيران، وإنما كشف الأهداف الحقيقية لسياساتها الخارجية، فعندما بدأ «حزب الله» الذي تأسس عام 1982 على أيدي الحرس الثوري، كان بين أولى عملياته تفجير مقرات للجيشين الفرنسي والأميركي بجوار بيروت، سقط فيها مئات الضحايا. ثم انصرف لخطف الأجانب في لبنان، وقتل بعضهم، وإخراج البعض الآخر بفدية. ثم تفجير السفارة الأميركية. وعندما اختفى الأجانب من بيروت، وما عاد يمكن ابتزاز الغرب لهذه الناحية، قال الإيرانيون إنهم يريدون تحرير جنوب لبنان. وضرب الهيبة الإسرائيلية. وما كان الحزب ولا كانت الحكومة اللبنانية هي التي تفاوض من أجل الهدن والأسرى والجثامين؛ بل كان المفاوضون ضباطا سوريين وآخرين من ضباط الاستخبارات والحرس الموجودين في السفارة الإيرانية بسوريا! ومنذ أواسط التسعينات، وبعد أوسلو (1993). تغلغل الإيرانيون في التنظيمات الفلسطينية المسلحة والإسلامية وغير الإسلامية، وأشهرها بالطبع الجهاد ثم حماس. وكان المعلن لدى هؤلاء اعتراضهم على اتفاق أوسلو الذي يحول دون تحرير كامل التراب الفلسطيني، وناصحهم بالطبع وبالنيابة عنهم كانت الاستخبارات الإيرانية تفاوض إلى جانب مفاوضاتها باسم «حزب الله». وما كانت ترعى في ذلك كله غير مصالحها ومصالح النظام السوري الحليف، الذي كان يريد وراثة منظمة التحرير باعتبارها قد تخلت عن التحرير بالسلاح! وهناك ثلاث محطات توضح ما نقصده من استغلال إيران لقضية فلسطين، وتداخل عنوان فلسطين مع العنوان الإسلامي الذي صار طائفيا بحتا. المحطة الأولى هي خروج الإسرائيليين من لبنان عام 2000، وهو انسحاب جيّره الإيرانيون لأنفسهم باعتبار أن «حزب الله» هو الذي أرغم الإسرائيليين على ذلك. والدليل على أنه ما كان إرغاما حيرتهم الشديدة عند الإعلان عن قرار الانسحاب، للخشية من تتعطل وظيفة «حزب الله» الابتزازية. ولذلك وبعد شهور أثاروا قصة مزارع شبعا المحتلة التي كان السوريون يدعون ملكيتها، وهذا يعني أنها ليست أرضا لبنانية وعلى السوريين تحريرها! والمحطة الثانية هي احتلال الأميركيين للعراق عام 2003، وقد سُرّ الإيرانيون لذلك مع توجّس. إذ بسقوط صدام سقط عدوهم الاستراتيجي، لكن القوة الأميركية صارت قريبة جدا منهم. ومنذ العام 2004 بدأت المفاوضات المباشرة على المستوى الاستخباري، ومن العجب أنه في ذلك الحين قررت إيران تنشيط عملها على النوويات. والمحطة الثالثة وهي ذات ثلاث حلقات، وفي كلها كان «حزب الله» أداة رئيسية: حرب العام 2006 بين الحزب وإسرائيل. واحتلال غزة من جانب حماس بدعم من بشار الأسد وإيران عام 2007. واحتلال بيروت من جانب الحزب عام 2008. وهكذا فإن إيران حققت عن طريق الحزب أهدافا استراتيجية ما كان لها جميعا علاقة بفلسطين أو تحريرها: إرغام الولايات المتحدة على مفاوضتها على النووي وعلى أمن إسرائيل. وقسمة القضية الفلسطينية بحيث صارت غزة بيئة خصبة للاستيلاء الإيراني، وما عاد الفلسطينيون بعد وفاة عرفات (2004) يفاوضون بقيادة واحدة، والاستيلاء التدريجي على العراق وثرواته وتخريبه، بحيث لا يمكن أن يشكل جبهة على الحدود أو أن يكون ندا لها. وتستخدم الأموال في تمويل حروبها ونشر نفوذها باتجاه سوريا وغرب المتوسط، وباتجاه اليمن. ونحن نعرف الآن أن الحزب اشتغل بالبحرين والكويت وسوريا والعراق واليمن لصالح إيران، والتي حاولت في كل بلد عربي أو إسلامي بلغة نفوذها إنشاء ميليشيات طائفية لها فيه تستخدمها للاستيلاء أو زعزعة الاستقرار، وقسمة الناس إلى سنة وشيعة، وعرب وعجم! وللإسلام مع إيران وقضية فلسطين قصة لا تقل هولا ودلالة. فبعد الثورة الخمينية مباشرة أعلن عن يوم القدس السنوي، باعتباره شاهدا على الاهتمام بالتحرير. ولكي تؤثر سلبا على الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة 1987) تبنت إيران و«حزب الله» شعار حماس أن أرض فلسطين وقف، ولا بد من إقامة دولة إسلامية فيها بعد التحرير. وتنظيم الجهاد الإسلامي الذي تبنته أولا كان يسير في إسلامياته إلى جانب الحزب خطوة خطوة. فلما انتظمت علاقتها بحماس، أعطتها بطهران مقر السفارة الفلسطينية. وهذا كله فضلا عن مؤتمرات الوحدة الإسلامية السنوية بطهران، والتي يخطب فيها رؤساء التنظيمات الشيعية في العالمين العربي والإسلامي، وزعماء حركات المقاومة في فلسطين، ثم يزورون منظمة الثقافة الإسلامية، ومدرسة صغيرة أقامتها إيران دعاية يدرس فيها أتباع المذاهب الأربعة السنية، على الرغم من أن السنة (وعددهم في إيران 15 مليونا ما تمكنوا من إقامة مسجد لصلاة الجمعة بالعاصمة!). وفي كل عام وفي يوم القدس بالذات، كما في عاشوراء، يشنّف الإيرانيون أسماع الضيوف والمواطنين بشتم العرب أتباع الإمبريالية الأميركية والذين لا يريدون تحرير فلسطين، ثم إنهم لا يستحقون الولاية على الحج. وتصاعدت الشكوى في سائر أنحاء العالمين العربي والإسلامي، ومن المشرق إلى المغرب.. وخطاب هذه الجماعات المستورد من إيران هو خطاب كراهية لأنه يبدأ بالشتم والقذف واللعن. وليس فيه فرصة الاهتداء مثلا كما في حركات التبشير. وقد كان فلسطينيو حماس والجهاد ينكرون أن تكون إيران ساعية للتشييع عندهم، ثم ظهرت حركة وجماعات: صابرون. فبدأ الحماسيون والجهاديون يتشاجرون من أين أتى هؤلاء، وهل هم من حماس أو الجهاد، ثم ارتأوا أخيرا القول إنهم ذوو أصول صوفية! إيران الخمينية كارهة للعرب وللسنة. وهي منذ التسعينات تحاول إقناع الشيعة العرب بالافتراق عن مجتمعاتهم ومقاتلتها، تماما كما حاول الانشقاقيون السنة. والذي أراه أنه لا حائل بين إيران وبلوغ أهدافها إلا اليقظة العربية والإسلامية. فالذين اشترتهم أموال إيران أو أهواؤها من الصعب استرجاعهم إلا بالوعي الجديد والقوي والجامع.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.