×
محافظة الرياض

غرامات للقضاء على هدر الخبز وترحيب بقوانين عدلية خليجية موحدة

صورة الخبر

عبد الإله بلقزيز كل تفكير في الآخر هو، في وجه منه، تفكير في الأنا وإن أتى المسألة من سبيل غير مباشر. ليس الآخر معزولاً عن الأنا أو برانياً عنها؛ فالآخر، مثلما حاولنا أن نبين، محايث للأنا بوصفه آخر الأنا تلك. وهذا يصدق حتى على أولئك الذين ينتظمون داخل ثقافة الآخر انتظام إقامة وحل، لا تربطهم بثقافة مجتمعهم إلا أوهى الصلات. إن هؤلاء أنفسهم لا يكون في مستطاعاتهم أن يتحرروا، تماماً، من الشعور بانتمائهم المجتمعي والثقافي والديني، حتى وهم يعتقدون أنهم عنه معرضون، تماماً كما لا يسهل عليهم أن يذهبوا في التماهي مع الآخر إلى الحد الذي يصير فيه ذلك الآخر أنا لهم. لكنَّ للتفكير في الآخر تفكيراً نقدياً معنًى مختلفاً ؛ ففيه إفصاح عن انقطاع في صلة التماهي مع ذلك الآخر، وتعبير عن نشوء حال من الاستقلال النقدي عنه. وهذا لا يكون إلا لدى من نبهته أناه الثقافية، أو ثقافات أخرى، إلى بطلان فرضية المرجعية الواحدة والمعيارية الواحدة، التي تتولد من السقوط في حبائلها علاقات التماهي. وما أغنانا عن القول إن كثيراً ممن أتوا نقد الثقافة الغربية، من الباحثين والدارسين العرب، هم في جملة من حررهم انتباههم لثقافتهم العربية، ولغيرها من الثقافات، من روابط التماهي ومن أوهام المركزية الغربية. من بين سائر من خاضوا في نقد الثقافة الغربية، من المفكرين والباحثين العرب، وهم كثر، يتميز نقد المتشبعين منهم بالثقافة تلك بطابع خاص لا يشاركهم فيه غيرهم من ناقديها. وأظهر سمات خطابهم النقدي أنه انطلق من أرضية معرفية لا غبار عليها؛ هي تقاسمهم العديد من القيم الثقافية والمعرفية مع المفكرين الغربيين الذين تناولوا نصوصهم بالنقد، أو قل إنهم ينهلون من المناهل عينها التي يعب منها الغربيون أولاء. وهذا إنما يعني أمرين: أولهما أنهم ليسوا متطفلةً على الثقافة/ الثقافات الغربية و، بالتالي، لا يحرك نقدهم لها منازع العداء المجاني والبغض والكراهية، أو وازع الرغبة في إثبات الأصالة والاعتصام بها والنضال عنها، وما في معنى ذلك من ضروب النرجسية الثقافية والحضارية المرضية. وثانيهما أنهم يمثلون جيلاً ثانياً مختلفاً من أجيال المثقفين العرب المتأثرين بالثقافة الغربية. فإذا كان الأول منهما (جيل الليبرالية العربية لفترة ما بين الحربين) قد تشبع بالثقافة الأوروبية وتأثرها مقتدياً إلى حدود التماهي، ل يستحق على ذلك وصم خصومه له بالتغربن، فإن الجيل الثاني هذا تشبع مثل الأول - بل أكثر من الأول - بقيم الثقافة الغربية، لكنه احتفظ لنفسه بالقدرة على بناء المسافة النقدية الضرورية من الثقافة تلك، منتقلاً من التلمذة لها، والاستلهام منها، إلى حوارها ومساءلتها من الداخل. ما الذي يعنيه إقدام جمهور من مثقفي الحداثة العرب على نقد الثقافة الغربية من موقع الحداثة (كما فعل آخرون في نقدهم التراث من الموقع عينه)؟ إنه يعني أموراً ثلاثة مترابطة: أولها أن الباحثين أولاء تشبعوا بحس نقدي عالٍ حصنهم من السقوط في أي نزعة إيمانية وانبهارية بمنظومات الأفكار التي يتصلون بها وينهلون منها، كائنةً ما تكون قوة الأفكار تلك وجاذبيتها. ومن النافل القول إن رياضة النفس على ذلك، من طريق التمرين الدائب على فعل النقد، وحدها ما يبلغ به فكرٌ حدّ الحصانة تلك. ولكن، أيضاً، من الأمانة القول، إن الحساسية النقدية التي تحلوا بها لم تتكون لديهم إلا من الاتصال المستمر بنصوص الفكر الغربي وتياراته ومدارسه، حيث مستودعات الفكر النقدي وذخائره النفسية مما يذخر بها ذلك الفكر الغربي. هكذا ظفر الحداثيون العرب من الثقافة الغربية - في جملة ما ظفروه منها - بدرة دررها: النقد؛ وهو غنم غير قليل الشأن من وجهة نظر المعرفة المعاصرة. وما يقال عن الحس النقدي، هنا، يقال عن الحس التاريخي؛ أي الوعي بالتاريخية. لا يكون وعيٌ ما نقدياً إلا متى كان وعياً تاريخياً، أي وعياً يضع المعطى المقروء أو المدرك في نطاق تاريخيته المتحدد بها، ويفهمه على المقتضى هذا فهماً تاريخياً، فالتاريخ مصدر الأحكام النقدية ومرجعها وليس للنقد من مرجع آخر غير التاريخ. وحتى إن صح القول، إن للنقد معايير معرفية وعلمية - وهذا صحيح - فهو يصح، فقط، إن قررنا أن هذه المعايير نفسها نسبية، متغيرة، لأنها تاريخية: ترتد إلى التاريخ بما هو حقل تكونها وتطورها وتغيرها. وثانيهما أن الحداثيين العرب، القارئين نقدياً في الثقافة الغربية، قطعوا شوطاً كبيراً في مضمار التحرر من التغربن - بما هو تبعية ثقافية وتقليد واقتداء مبتذلان - والتحرر من مطلقات الثقافة الغربية وما يعتور هذه الثقافة، ككل ثقافة أخرى، من أمراض وأوهام وأساطير. وإذا كانت عبارة النقد في اللسان العربي تعني- في نصابها الإيتيمولوجي - تمييز الجيد من الرديء، فإن المعنى هذا هو ما ينطبق على فعل النقد الذي أتاه الحداثيون أولاً وهم يتصلون بالثقافة الغربية ويساءلون منطلقاتها وفرضياتها؛ فلقد ميزوا فيها بين الغثاثة والسمانة، بين الإيديولوجيا والمعرفة، بين المركزية الذاتية والكونية، بين النرجسية الحضارية والنزعة الإنسانية، بين التنميط والأقنمة والمعيرة (المعايير) والاعتراف بتعدد الأنماط والمعايير، بين المنزع إلى السيطرة الثقافية والتثاقف، بين الأسطورة والتاريخ...إلخ. وهم بهذا التحرر من مطلقات الثقافة الغربية ومطلقياتها، إنما يستكملون فعلاً من التحرر آخر كان قد بدأ- وما يزال مستمراً - تجاه المطلقات، في حركة معرفية واحدة لنقد السلطتين المرجعيتين اللتين تحكمان الوعي العربي (التراث والغرب) من أجل تحقيق ما أسماه الجابري بالاستقلال الذاتي. وثالثها أن نقدهم الثقافة الغربية ومطلقاتها ينم عن قدر من التشبع بنزعة النسبية في التفكير، وهي (النسبية) قرينة النقد والتاريخية. وفي هذا الغمار، لا يتردد أكثرهم في إبداء الاحترام اللازم للثقافة والحضارة العربيتين، والمنافحة عنها ضد غائلة الهجمات التي تصيبها من الغربيين الممسوسين بنزعة إثنية مركزية. والنسبية في التفكير ترد إلى وعي منفتح ذي طابع إنساني يحترم حقائق التاريخ: من تعدد وتنوع واختلاف في الخبرات التاريخية، والتجارب الإنسانية، والحساسيات والأذواق والمعايير، ويرفض محوها أو تبديدها بدعوى الكونية، التي هي ليست- في المطاف الأخير- أكثر من تعلة لإدماج هذه الأطياف المتنوعة، إدماجاً قسرياً، في نموذج وحيد أوحد (غربي) بحسبانه النموذج المعياري والكوني. وبهذا المعنى، ينتظم الحداثيون العرب - في موقع نقدي كوني حقيقي يعيد تأسيس الكونية بما هي جماع الخبرات والتجارب الإنسانية، وبما هي محصلة مكتسبات البشرية، وإن تفاوتت أنصبتها من المكتسبات تلك. وهم بذلك إنما يعيدون وصل العلاقة بقيم عصر الأنوار، الذي انقطعت الصلة به، ويعيدون تشذيبها وصقلها وتطويرها. hminnamed@yahoo.fr