ساقتني الأقدار الى بلدة كفرغان في شمال شرقي حلب، لأقضي فيها بضعة أيام برفقة مجلسها المحلي، إلا أن القدر شاء أن يكدر صفو الزيارة، لتطل علينا «دولة الإسلام في العراق والشام» (داعش) بزيارة مريرة فرضت فيها سيطرتها على البلدة، بعد معركة قصيرة نسبياً مع «جيش محمد» التابع لـ «جبهة النصرة». أثناء المعركة كنت موجوداً في مستشفى البلدة برفقة الطبيب المناوب، ننتظر انتهاء المعركة بالتكبير من دون أن ندري اياً من الطرفين حسم الأمر لمصلحته، فكلاهما وكما جرت العادة يفتتح المعركة وينهيها بالتكبير، فما عاد السامع يعرف من انتصر في هذه المعارك العبثية. بعد نقاش سريع مع الفريق الطبي الرافض لفتح أبواب المستشفى أمام المقاتلين، اتفق الجميع على الخروج لمعرفة من انتصر وماذا يريدون منا، دقائق معدودة فصلتنا عن موت محقق، فأحد سكان البلدة المتعاطفين مع «داعش» أخبر أمير التنظيم الموجود في البلدة أن المستشفى يضم مقاتلين لـ «الجيش الحر»، فما هي إلا لحظات حتى تمت محاصرة المكان ومطالبتنا بتسليم أنفسنا وتسليم عناصر «الجيش الحر». فتح الطبيب الباب وغادرنا البناء لتوقفنا عشرات البنادق بسؤال واحد من أنتم؟! صمت سريع وثقيل خيم على المكان، ليقطع الطبيب الصمت بقوله مستشفى، أطباء، ليظهر من بين المسلحين شاب عشريني قصير القامة، يسأل بعربية ثقيلة أين «الجيش الحر»؟ سارعته بالإجابة هذا مستشفى ولا يوجد فيه «جيش حر»، ليصرخ ابن البلدة المتعاطف «كذابين، المكان فيه عشرات من الحر»، حسم الرجل القصير أمره وأمر عناصره بتفتيش المكان، لم تكن ملامح أي منهم واضحة، فكلهم ملثمون في عتمة الليل وانقطاع التيار الكهربائي. دخل ما يقارب عشرة عناصر مع الرجل القصير الى البناء ليبدأوا تفتيش المكان باستثناء الرجل القصير. سألته السؤال ذاته الذي سأله: «من أنتم»؟ قال: «نحن مجاهدون، جئنا لنصرة دين الله»، عربيته الثقيلة جعلتني أتأكد من شكي بأنه مهاجر، كما يسمون أنفسهم، سألته «من أين أنت؟» قال بإنكليزية طلقة:It’s not your business «ليس من شأنك» وساد صمت طويل لأكثر من نصف ساعة، قطعته بسؤال: «هل إخافة الناس والهجوم عليهم وهم نيام من أعمال المسلمين ومن تعاليم الإسلام»، صمت الرجل ولم ينبس ببنت شفة، ليدخل رجل آخر بعربية ثقيلة أيضاً على خط الحديث ليقول: «الأمير لم يفهم كلامك، لغته العربية ضعيفة»، فسألته: «من أين جاء أميركم، ومن أين جئت أنت؟» قال: «أنا تركي والأمير جاء من آسيا»، قلت: «من آسيا؟؟ حدد أكثر»، فقال: «أنه من اليابان»، مع إجابة الرجل شعرت بصاعقة تصيبني، فآخر ما كنت أتوقعه أن يكون أحد أمراء «داعش» يابانياً، تحدثت إليه بالإنكليزية وطلبت منه النقاش، فأجاب بالموافقة إذا سمح الوقت بذلك. انبلجت ساعات الصباح ليوقظني الياباني بلطف شديد: «انهض الى صلاة الضحى». فوجئت بعدها بأن الرجل قد أعد فطوراً لكلينا مما حمل معه من طعام، طلب مني مشاركته طعامه والنقاش في ما أرغب. جلسنا على الرصيف عند مدخل المستشفى، عرفني الرجل عن نفسه باسم «أبو مسعود الياباني، أمير دولة الإسلام في العراق والشام في منطقة كفرغان وما حولها»، سألته: «من عيّنك أميراً على الناس وأنت لا تعرف عنهم شيئاً، لا تعرف عاداتهم ولا تقاليدهم ولا حتى لغتهم؟» فقال: «الله ورسوله هم من أمروني بذلك»، قلت: «وهل أمرك الله ورسوله باحتلال مستشفى وترويع المرضى؟» قال: «سأعتذر عن ذلك، لكني كنت أبحث عن المرتدين»، قلت: «أي مرتدين؟» قال: «الجيش الحر»، قلت: «وما أدراك أنهم مرتدون؟» قال: «أمير المؤمنين أبو بكر البغدادي افتى بقتالهم لأنهم مرتدون وحصوات»، قلت: «تقصد صحوات؟» قال «نعم». استمر الحديث أكثر من ثلاث ساعات، لم أستطع خلالها اقناع الرجل بخطأه وخطورة كلامه، لكنه رغم تطرفه الواضح، قبل الحوار وقبل اسئلتي التي تجاوزت خطوطه الحمر الى حد بعيد، وفاجأني بطلب واضح بالبقاء معه ومرافقته لأعرف حقيقة ما يقوم به هو وتنظيمه وكيف يحلون مشاكلهم، بدلاً من تصديق الشائعات عن «الدولة المظلومة» على حد قوله، لم أستطع البقاء لكني وعدته بزيارة قريبة له، رغم يقيني بأني لن أرى ما يسرني فيها. ما أثار دهشتي حقاً، هو قدرة الرجل على الجمع بين النقيضين، بين لطف اليابانيين وفظاظة «الدواعش»، ربما غلب طبعه اللطيف على تطبعه الخشن، لكن ذلك لم يمنع الرجل من قطع الرؤوس والتفاخر بذلك. تحقيقاتداعش