×
محافظة المدينة المنورة

132 ألف حاج متبقُّون في المدينة المنورة

صورة الخبر

باب الغوَّاص بعد عودتي خالي الوفاض من هذه الرحلة جلست أتذكر الماضي.. وأنا مهموم! كانت قريتنا صغيرة المساحة قليلة السكان في الماضي لا يتجاوز أهلها ثلاثة آلاف نفر ما بين رجل وامرأة وشاب وطفل. ورغم ذلك فهي في ذلك الوقت تعتبر من القرى الكبيرة في المنطقة. فقد كانت هناك قرى لا تزيد عن سبعة بيوت وسكانها لا يزيدون عن عشرة أو عشرين نفراً. لذلك حين بدأت الدولة بفتح المدارس والدوائر كانت قريتنا من أوائل القرى التي شملها الاهتمام وأنشئت فيها المدارس ثم تتالت الدوائر واحدة بعد الأخرى حسب حاجة وطلب السكان وجاءت المدنية بمشاكلها وشرورها. والحقيقة أن قريتنا قد بدأت فيها المشاكل والمتاعب. أهل القرية كانوا مطبوعين على البساطة والعفوية والفوضى المنظمة. كانت تحكمهم الأعراف والتقاليد ويسيِّر شؤونهم الكبار والعقلاء منهم. وقلّما كانت تحدث مخاصمات أو مشاجرات أو تعديات تستدعي القلق، وإذا حدث شيء من ذلك، وهو نادر فهناك أمير القرية (أمير بالاسم) وهو شيخ كبير يتولى مع الكبار من أهل القرية حال النـزاع وإصلاح الأحوال بمنتهى البساطة على اعتبار أن أهل القرية أسرة واحدة ليس بينهم غرباء.. فما زال كبار السن حتى الآن يحدثوننا كيف هرع الرجال قبل الشباب والأطفال وجلسوا على المقاعد في المدرسة وعبثاً حاول المعلم وهو الوحيد الذي أرسل للتعليم في مدرسة القرية.. عبثاً حاول إقناع الكبار بأن الدراسة خاصة بالأطفال الصغار الذين لا يزيد عمرهم عن عشر سنوات.. ولم يستمعوا إليه بل ظلوا جالسين في المقاعد حتى جاء الأمير وفضَّ الإشكال واعداً إياهم بالمطالبة بمدرِّس آخر لتعليم الكبار.. ولم يكن ذلك بالأمر الخطير لكن ما حدث بعد ذلك من تغيرات كان مهماً. كان وقت الضحى.. حين سمعنا طرقاً شديداً على الباب وجلبة كبيرة لرجالٍ وأطفال يتوسطهم المُطوِّع وهو يهدر كالجمل، لا بد من أن ينالوا جزاءهم بما أمر الشرع.. لا بد من جلد اللي ما يخافون الله...!! أذكر تلك الحادثة تماماً.. كنت في السادسة من عمري.. خرج الوالد مسرعاً ليفتح الباب وقد ازداد الطرق شدة. وخرجت في أثره فإذا بالمطوع يبادره بصوت أجش خشن وعيناه تقدحان شرراً. - أنت يا أخوانا.. أنت نايم..؟ ما دريت وش سوّى ولد أختك الدحمي؟ - لا والله ما دريت وش سوّى؟ - هل تفقدته لصلاة الفجر في الخلوة وغيره؟ - وش عندك. - يسرقون عينك عينك من عنبة بستاني يسرقون وين. - الدحمي وولد السلمي وولد العبيدي ذولا الثلاثة الفسقة الفجرة في ديرة المسلمين.. يرضيك هذي السواة. - لا.. إن كانوا عملوها صحيح ما يرضيني لكن ذول جهال وصغار يالمطوع ومن وين لهم هالقوة حتى يتسلقون جدار بستانك. - أقولك شافهم واحد موثوق به.. لا تدافع عنهم وتراهم ما هم سهلين.. يالله هات الدحمي ولد أختك يقولون إنه هنا.. وين ولد السلمي وولد العبيدي تراني بطقهم اليوم بعد الظهر في السوق وأمام الناس. - على هونك يا مطوع.. على هونك.. خلنا نبحث الأمر ونتحقق ترى الدنيا ما طارت! - لا.. أبداً والله.. الدنيا طارت ونص.. يالله هات الدحمي! - الدحمي ما هو عندنا.. الدحمي عند أهله وأنا متعشم فيك يا مطوع.. أن تتحقق من الموضوع إن بعض الظن إثم. - ما هو ظن حبيبـي... وكاد! - طيب ذولا جهال.. حتى ما بلغوا مبلغ الرجال ولك علينا نأدبهم ونربيهم إن كانوا عملوا مثل اللي تقول. - ويش تقول... ذولا ما هم جهال.. الشعر نابت بوجيههم. وأنا اللي بوريك فيهم وأدبهم وما أحد له شغل. وغادر الموكب الهائج يتوسطهم المطوِّع إلى بيت السلمي وبيت العبيدي ودخل أبـي البيت وكان في غاية الاستياء من طريقة المطوع وصياحه وهياجه! واستطاع المطوع ومعاونوه أن يطبّقوا كالقضاء على الشبان الثلاثة وجلدهم المطوع بالخيزرانة بعد أن مدّهم على بطونهم واحداً واحداً.. دون أن يجرؤ أحد على التفوه بكلمة واحدة. بعد سنوات عديدة وبينما كنت في الرياض، قابلت الدحمي مصادفة وهو يقف في ساحة موقف القلابيات ولم أره قبل ذلك.. وعرفني وأقبل يسألني عن الوالد والوالدة وبقية الأهل. فدعوته للغداء معي وكنت أسكن مع العمال في بيت طين في المزرعة.. وبعد الغداء وشرب الشاي خطر ببالي أن أسأل الدحمي عن تلك الحادثة الشهيرة، خصوصاً عندما سأل عن المطوع وهو يبتسم قائلاً. - وش لون مطوعكم عساه بخير! قلت: بخير بس كيف تسأل عنه وقد ظلمك! وقال الدحمي: ذاك يوم وهذا يوم الناس من ذلك الحين يقولون ما عملها بالمطوع غير الدحمي حتى أبوي يقول نفس الشيء. قال الدحمي وهو يضحك: - أبوك صادق... والناس مثله فعلاً لقد عملناها!! ولو أن ما أحد مسك علينا شيء! - يعني أنت فاعلها.. صحيح؟! - نعم.. أنا والسلمي ولحد الآن وحنا هاجين. اشتغلنا في أرامكو وجمعنا قرشين واشترى كل واحد منا قلابـي ويشتغل ويكدّ عليه. والحمد لله الآن الحال مستورة. - كيف حصل هذا بالله عليك.. علِّمني! قال الدحمي: بعدما أخذ رشفة من بيالة الشاي كانت عين الخيرة هربنا منه إلى الرياض ثم ركبنا القطار إلى الشرقية ووجدنا الرزق. كم كنت أنا وسعد ابن خالتي نستعيد حكاية الدحمي مع المطوع فنضحك كثيراً... فلم يكن أولئك الرجال سوى أهلنا وأجدادنا وآبائنا.. وكان غالبيتهم يشهد الله رجالاً ناصحين للناس وكانوا يعملون بما أمر الله به وبما نهى عنه امتثالاً لقوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...». ولكن لا أحد ينكر فضل أولئك الذين كانوا مثالاً في التعقل والحكمة والرأفة والزهد والورع والإخلاص في الدعوة لدين الله وهداية الناس إلى الحق والصواب... إنها فلتات فريدة تبدر من أخينا حَشْر ومن شابهه لتتشكل قصة تثير الضحك كما تثير الألم وهي ما أصبح في عرف النقاد يدعى بالكوميديا السوداء.. (2) بعد حادثة الدحمي بشهرين تقريباً جاء المطوّع حَشْر لزيارة أبـي وكانت قد ألمّت بأبـي وعكة ألزمته الفراش مدة من الزمن. كان المطوِّع جهماً طويلاً ممتلئاً وذا كرش ناتئ وكانت جبهته واسعة ووجهه عريضاً وعيناه جاحظتين ولحيته كثّة طويلة حمراء وله شارب خفيف تحته شفتان غليظتان، وكان يحمل في يده خيزرانة طويلة تلك التي جلد بها الدحمي والسلمي والعبيدي وغيرهم. ورحّب به أبـي ثم جلسا معي على الزولية في المجلس، فقال المطوّع وهو يمسح على رأسي: - الحمد لله على سلامتك يا بو محمد، والله إنك في بالي دايم الدوم وقد جئت أطمئن عليكم يوم دريت عن مرضك! - كفو يالمطوع كفو بارك الله فيك. - ما شاء الله. ما شاء الله هذا ولدك محمد ونعم ما شاء الله رجّال لازم يجي المدرسة ولازم يجي معك المسجد حتى يتعوّد على الصلاة وأنا أخوك. - طبعاً.. طبعاً. طال عمرك هو إذا حضر يجي بس أنت ما تشوفه! وقام أبـي مستئذناً وأحضر قطعاً من الحطب ووضعها في الوجار ثم شبّ النار وبدأ في إعداد القهوة والحليب بالزنجبيل، وفي الخارج كان المطر يهطل غزيراً والرياح شديدة باردة وتمّ إعداد القهوة، وصبّ أبـي فنجاناً وقدّمه للمطوع ثم ثانياً وثالثاً ثم مدَّ له بيالة حليب بالزنجبيل. في تلك اللحظات كنت أحدّق بالمطوّع وأتساءل ما الذي جاء به. إنه يبدو لطيفاً هادئاً ليِّناً وليس كما رأيته ذلك اليوم الذي كان يتشاجر فيه مع أبـي عندما طلب منه تسليمه الدحمي ليجلده. إنه إذن صديق لأبـي وأنا أخاف منه. لقد أسقيناه قهوة مع التمر وحليب الزنجبيل. وقال أبـي وهو يبتسم: - ما شاء الله يا مطوّع الصحة زينة الحمد لله. - وين هي الصحة يا بو محمد طفت الخمسين وزود مير عسى الله يسمت. - لا فيك البركة توك شباب.. ولازم تتزوج الثالثة! - الثالثة خلصنا يالله حسن الخاتمة. - وش تقول في أبو سليمان أكبر منك وعنده أربع. - طيب يا بو محمد. على يدك إن كان حولك بنية! - أخت محمد مثلاً. قلت له دون تفكير: ما تخسى! وهنا رأيت وجه أبـي يتغيّر قليلاً فالمجاملة والملاطفة انقلبت من المزاح إلى الجد. المطوع ما كذب خبر يبـي يتزوج، وابتسم أبـي قائلاً: - لا والله ما حول بنيات.. لكن اللي يدوّر يلقى. - أيه. تعبت يا بو محمد وأنا أدوّر ما لقيت أحد يقبلني! - لا.. إن شاء الله تلقى! قال المطوع.. بعد لحظات صمت: - أبـي أقولك شيء يا بو محمد، بس لا يكون في خاطرك. ترانا أخوان وجيران وطلبة علم لكن أنا شرهان عليك كيف يا بو محمد تقول للرجاجيل إن الدينة ربا. هل أنا أتعامل بالربا يا بو محمد؟ شتات نينوى كُنا ثلاثة ولا أحد رابعنا، أنا، أمي وشقيقي الأعمى. تُطلق عليَّ أمي لقب: «الماكر»، لكن هذا لا يعني أنها لا تحبني، فلا يوجد في العالم أم لا تحب أبناءها. لَكُنّا هلكنا نحن الأولاد الصغار لولا أمهاتنا، فأنا مثلاً لم أعرف أبي لأنه مات قبل أن أولد، لكني واثق بأن أمي تحبني ضعفين مرّة عن قلبها والأخرى نيابةً عن أبي. ما زلت أتذكر بوضوح كيف كنت وبمنتهى المَكر أستيقظ من دون أن أفتح عيني، وأروح أستطلع من الروائح ما الذي يجري في الدار. كنت أشم أولاً رائحة الدفء إذا ما كانت الدنيا شتاءً، هذا يعني أن أمي قد أوقدت المدفأة، وربما كنت أشم رائحة المدفأة أولاً لأشم بعدها رائحة الدفء، وفي كلتا الحالتين تكون أمي قد استيقظت قبلنا بوقت طويل. بعدها بوقت قصير، أشم رائحة الخبز، فأشعر بالفرح، وما زلت حتى الآن أشعر بسرور غريب كلما شممت رائحة الخبز. المهم أني في تلك الأيام كنت أقول لنفسي إن أمي تخبز فوق سطح الدار وأروح أتخيلها وهي تفعل ذلك، وبسبب مكري الشديد كنت أعود للنوم من جديد بسبب إغراءات لحاف الصوف السميك المغلف بقماش الأطلس الأحمر، لأستيقظ بعدها بعينين مغمضتين مجدداً، لأشم هذه المرة رائحة البيض المقلي، وبعده الشاي، فأتيقن أن أمي ستجبرني على فتح عيني بعد قليل لأتناول فطوري قبل أن تغادر المنزل. كانت أمي تعمل لتعيلنا، تخرج الضحى ولا تعود إلا قبل العصر مرهقة شاحبة، تعلق عباءتها السوداء على المسمار الصدئ خلف باب غرفة الجلوس، وتهرع لتعد لنا الغداء. على السفرة تكون متعبة أو ساهمة لتسألني كيف أمضيت يومي، لكنها تعلم فوراً، ومن مجرد نظرة تمشِّط فيها ملامح وجهي مركزة على عيني كل الحماقات التي ارتكبتها في نهاري ذاك. بعد الغداء تعد أمي الشاي للمرة الثانية، ونشربه معاً أو نتظاهر بذلك، لأن أمي لا تتحدث كثيراً معنا. تخرج العلبة الفضية اللامعة التي تضع فيها سجائرها لتدخن ثلاث سجائر واحدة بعد الأخرى بينما تحتسي شايها وهي ساهمة تحدق إلى بقع الجدار الصفراء وتتنهد كثيراً، وتسرح في التفكير، أسألها أحياناً ما بها فتبتسم فقط من أجلي وتقول ويدها تلعب في شعري: «لا تتعب رأسك الصغير». لطالما نظرت إلى رأسي في المرآة الوحيدة في منزلنا، مقارناً إياه بحجم رأس أخي الأكبر مني بثلاثة أعوام، لم ألحظ قط أنه صغير، بل إني كنت متيقناً أنه كبير إلى الحدود المسموح بها في مقاييس الجمال؛ فالكثير من الأطفال في حيِّنا كانوا يعيّرون بألقاب مثل رأس الجحش، أو أبو رأس، لأن رؤوسهم أكبر مما ينبغي بكثير. كانوا في الحي يطلقون على منزلنا اسم منزل الأرملة، وبحكم مكري كنت أصغي إلى ما يقال إذا ما كان الكلام يخصّ أسرتي بالطبع، لذلك سمعت من أشخاص طيبين، وآخرين أشرار كلاماً طيباً عن أمي. عن رفضها الزواج بعمران القجغجي، والحاج أحمد العطار لتتفرغ لتربيتنا، وكيف أنها اضطرت إلى الخروج من منزلها يومياً لتعمل وتعيلنا. كان الكلام الذي لا أسمعه عنها يجعلني أفكر قبل أي شيء أفعله خلافاً لكل أطفال الحي، حتى لا أسبب لها الحزن لأن نصيبها منه يكفيها وليست بحاجة إلى زيادة. وكنت أشعر بالكره يفوز في صدري كلما قابلت أولئك الرجال الذين سمعت أنهم تقدموا لخطبتها، فأروح أنظر إليهم بغضب قبل أن أولي الفرار بعيداً، لأنهم كانوا يريدون أن يسرقوا أمي مني. كانت أمي تعمل في عيادة طبيبة نسائية، تسجل أسماء المريضات لتدخلهن بالتسلسل الصحيح، وتساعد الطبيبة على تعقيم الأدوات الطبية وتقف في جوارها أثناء إجراء بعض العمليات البسيطة. لم تكن الطبيبة كريمة جداً، لكن مرتب أمي أمّن كفاف تلك الأيام البريئة الطيبة. ما زلت أذكر اليوم الذي سجلتني فيه أمي بالمدرسة وسألتني المديرة وهي امرأة ضخمة جداً عن اسمي، فأجبتها: «أحمد». كانت تلك المرة الأخيرة التي أخطئ فيها فيصحح لي الخطأ شخص ما وهو يضحك كما فعلت المرأة الضخمة التي كان اسمها ست حمدية، والتي قالت لي بعد أن انتهت من ضحكةٍ سخية: «يجب أن تذكر اسم أبيك وجدك يا بني». لم أكن أعرف اسم أبي لكن أمي كانت هناك لحسن الحظ: «أحمد رابح عباس»، أخبرت المديرة التي سجلت الاسم وبقايا الضحكة لا تزال عالقة بوجهها. في طريق عودتنا إلى المنزل اشترت لي أمي لوح حلوى من دون أن أطلب منها. وأنا آكله على مهل قالت لي: - لم أخبر المديرة أنك يتيم لذلك لم تعرف اسم أبيك كوني أسميه (المرحوم)، لا داعي لهذا، نحن لا نحتاج إلى شفقة الناس، من الأفضل أن نكون أقوياء. - لكني لم أكن أعرف يا أمي، أقصد لم أكن أعرف أنهم يحتاجون إلى معرفة كل تلك الأسماء. بعد أن ذهبت أمي إلى عملها اليومي قلت لعباس إن الحياة معقدة خارج منزلنا، وإنهم يريدون معرفة أسماء كثيرة ليسجلوها في دفتر ضخم لم أر مثله طوال حياتي. عباس لم يستغرب، هزّ رأسه مثلما يفعل دائماً، فكرت مع نفسي أنه لا يبالي بما يجري خارج جدران هذا المنزل، لكني كنت مخطئاً لأنه سيسألني أسئلة كثيرة عن المدرسة في ما بعد. في تلك الليلة، وبعد العشاء حدثتنا أمي عن أبي مطولاً، يبدو أن جهلي باسمه قد حثها لتتكلم، فقالت لنا وهي مطرقة إلى الأسفل إنها تحاشت الكلام عنه كي لا تسبب لنا الحزن، وإنه رحمه الله كان رجلاً طيباً رحل في عز شبابه. في تلك الليلة سمعت من أمي للمرة الأولى ما سمعته من جاراتنا الثرثارات مرات عديدة، كان أبي يعمل سائقاً على خط الموصل – بغداد. كان سائقاً ماهراً لكن المنية وافته في ليلة شهدت أمطاراً غزيرة فانزلقت شاحنته الثقيلة في وادٍ، وأخذته معها. مسحت أمي دمعها أكثر من مرّة، وتركته ينساب مرّات عديدة وهي تروي لنا قصة حياة أبي التي كانت قصيرة ويا للأسف. نهضت لأحضر لها منديلها من حقيبة يدها الوحيدة، فرأيت أن أخي كان يشاطرها البكاء الصامت، ليلاً سأخبره أني تعجبت لأني ظننت أن العميان لا يتمكنون من البكاء، وسيجيبني وعيناه مغمضتين أن عيناً لا ترى بإمكانها أن تدمع. عباس يخبرني أحياناً ببعض الأشياء، فهو لا يرى ظلاماً دامساً في عالم العميان مثلما كنت أتصور، بل البياض الممتد إلى ما لا نهاية! استغربت هذا لمّا سمعته منه للمرّة الأولى فسألته وماذا يرى لحظة يغمض عينيه فأجاب: (الشيء نفسه!)، فكبرت دهشتي. أخي الأكبر أخبرني أنهم في خارج البلد يدرّسون العميان في مدارس خاصة، وهناك كتب خاصة لكفيفي البصر نقشوا عليها الكلمات بدبوس صغير بدل كتابتها بالحبر.