تحقيق: محمد الدويري لا ينحصر دور الحضانة ورياض الأطفال في كونها مكاناً آمناً لإيواء الأطفال خلال ساعات العمل التي تقضيها الأم خارج بيتها، وتقديم الرعاية النفسية والصحية لهم فقط، بل وصلت المرحلة في النظام التربوي والتعليمي الحديث داخل الحضانات إلى تطوير مقدرة الطفل نحو ما يعتقده الكثيرون أنه مستحيل لطفل في الشهور الأولى من عمره وما بعد، كالقراءة ومحاولته تحليل النص المكتوب أو المرسوم في كتب مخصصة للأطفال. تكاد لا تتوقف شكاوى الآباء والأمهات، إزاء إحجام أبنائهم عن القراءة، ولكنهم يغفلون في خضم تذمرهم وشكواهم في هذا الشأن، أن الأسرة، وحسب أحدث الدراسات في الحقل، تشكل الجوهر الأساس في بناء دعائم الشغف بالكتاب لدى الطفل، كونها من يغرس في نفسه وعقله سلوكيات تبتغيها ليتصف بها الأبناء. يلتزم المجتمع الواعي إزاء تلك الحالة، ويلح للتفتيش عن أنجع الوسائل للوصول إلى ما هو منشود في هذا المجال، في خلق علاقة وئام حقيقية بين الطفل والكتاب، ليستغل الأرضية التي أوجدتها القيادة الرشيدة من خلال مبادراتها المتتالية التي تهتم في هذا الشأن، لتأسيس أجيال مؤهلة، تتحمل المسؤوليات في نهضة المجتمع وتقدمه. وعلى هذا، أكدت حضانات ورياض للأطفال خلال جولة لالخليج أهمية تطوير أساليب تقضي بتوثيق العلاقة بين الطفل والكتاب من بداية وعيه، لتكون هذه العلاقة هي نقطة البداية في مسيرة الأطفال للتعلق بالكتاب، لإيجاد الألفة بينهم ابتداءً من الشهور الأولى من عمره 6-12 وما بعد ذلك، لأن هذه الأساليب تمكنه من اكتشاف العالم متجانس الألوان ومتعدد الأشكال والأجناس من حوله، وتضع الأسس السليمة للغوص في بناء المستقبل له ولوطنه والإنسانية. تحقيق الألفة قالت ورود الخصاونة المديرة التنفيذية لسلسلة حضانات الدانة، إن انشغال الأطفال في مداعبة الكتب الخاصة بهم واللعب بها، والموضوعة تحت تصرفهم، تحقق الألفة بينهم وبين الكتاب، مما يتيح لهم ممارسة سلوك المطالعة، وبالتالي إثارة المشاعر والانفعالات لديهم، الأمر الذي يجعله مع مرور الوقت يدرك الطفل أن الكتاب ليس شيئاً كباقي الأشياء، فيتعلم لاحقاً احترامه وحبه والتمسك به. وأشارت إلى أن تشكيل علاقة بين الطفل والكتاب من بداية عمره، في واقع الأمر لا يتعلق بتعليم الأطفال القراءة في المهد، بل الهدف من ذلك إقامة نوع من الصلة بين الأطفال والكتاب، حيث إن الفكرة تقوم على إذكاء الميل نحو المطالعة لدى هؤلاء عن طريق اكتشاف مبكر للمسرات والانفعالات التي ترافقها الرسوم القصصية. وأكدت أنه من الضروري توفير الكتاب حيثما يوجد أطفال، أي في دور الحضانة ورياض الأطفال وكذلك في صالات الانتظار في مراكز الأمومة والطفولة، موضحة أن تفحص الطفل للنص المكتوب ليس فكرة مدهشة أو شاذة، بل هي محاولة من الطفل في فك الرموز التي تشكل له استفهامات ذهنية حول حقيقتها. وبينت الخصاونة أن التركيز على أسلوب القراءة التصويرية من خلال كتب مصممة لتناسب المراحل العمرية للأطفال على اختلافها ابتداءً من عمر الشهور، يشكل مساحة واسعة وواضحة، تولد لدى الأطفال فكرة إيجابية بأهمية الكتاب في حياته كونه مصدراً مهماً لاكتساب المعرفة الذاتية الذي يكوّن للطفل متعة على المدى البعيد من خلال حب البحث والاكتشاف. للمدرسة والأسرة دور منسجم أكد طلال السلومي باحث وموجه اجتماعي، أننا في زمن طغت فيه الوسائل الإلكترونية الحديثة وأصبحت الشغل الشاغل للأطفال، حيث إن هذه الوسائل الدخيلة انتشرت بشكل كبير لتنحصر علاقة الطفل مع الكتاب في زاوية ضيقة، مشيراً إلى أن هذا الأمر بأي حال من الاحوال لا يسحب البساط من تحت الكتاب ودوره الممتد عبر التاريخ، موضحاً أن هناك محددات علمية تبين الدور والأثر الكبير للكتاب مهما تطورت أساليب التعليم باستخدام التكنولوجيا المتطورة. وقال إن الكتاب يصبح ذا علاقة مؤثرة ومتينة في حياة الطفل منذ الصغر، في حال أحسن الوالدين استثمار هذه العلاقة بشكل صحيح، حيث إن السنوات السبع الأولى من حياة الطفل تتشكل فيها القيم والأنظمة التي تستمر معه طوال حياته، وكلما بدأ الوالدان من فترة مبكرة بتعويد الأطفال على نوعيات من الكتب تطورت معهم علمياً وتثقيفياً بتدرج المراحل العمرية، وتتيح لهم - أي الوالدين - تعزيز القيم والعادات من خلال القصة والألعاب ليزداد تعلق الأطفال بالكتاب. وللمدرسة دور كبير من حيث تبسيط المادة وإعطاؤها أشكالاً ورسومات مبهجة، يمكن لها أن تُدمج الطفل معها، حيث إن غالباً ما تكون الكتب جامدة ومحشوة بنصوص ورموز لا تتفق مع المقدرة الذهنية للطفل، مما يجعله ينفر من الدراسة ويهجر الكتاب، ومن ثم لا يفكر في مواصلة القراءة بعد المدرسة، وهنا تقع مسؤولية كبيرة بين البيت والمدرسة من حيث تطوير شكل ومحتوى الكتاب بصورة علمية، تدمجه مع التعليم وتفتح نفسيته للقراءة. وتابع: وجود والدين يمارسان القراءة أو تكون لديهما مكتبة صغيرة أو يرتادان معارض الكتب بشكل دوري، تشكل في وجدان وعقل الطفل الأهمية في مرافقة الكتاب منذ الصغر، وترسخ لديه مودة قوية مع الكتاب، مؤكداً أن هذا لن ينشأ معه عشوائياً دون ربط وتحفيز من الأسرة. وشرح نهجاً يدل على توجه الأطفال نحو السهولة في تعلقهم بمصادر المعرفة بقوله: تعلق الطفل بالتلفزيون وبالأجهزة الإلكترونية ينبع من ناحية علمية تفيد بأن مستوى استيعاب الأطفال للكتاب مع الأجهزة، يحتاج فيها الطفل للقراءة ثلاث مرات تقريباً ليصل لمستوى الاستيعاب لمرة واحدة من خلال الأجهزة، وهذا ما يفسر تعلق الطفل بالتلفزيون والأجهزة وهجره للكتاب، وهذا ما يجب علينا أن نسعى إليه في تقليص الفجوة من حيث شكل وجاذبية الكتاب، بما يتناسب ويتوافق مع المراحل العمرية للأطفال، لكي نوجد علاقة حميمة بينهم وبين الكتاب على المدى القريب والبعيد. نتاجٌ آني ومستقبلي من جهتها قالت الدكتورة جميلة خانجي المتخصصة في علم اللغة العصبية وأنماط التفكير والهيمنة الدماغية، إن هنالك أخطاء شائعة في آلية تعليم الأطفال، وذلك في الاعتقاد الإشكالي لدى الكثير بأن دماغ الطفل ما هو إلا وعاء فارغ ونحن من نملؤه بالمعلومات والأفكار والرموز، وهذه المغالطة يجب أن نتخلص منها، بالإيمان المطلق أن الطفل يسمع ويميز الأصوات منذ عمر الأشهر الخمسة في رحم الأم، لتكون هذه الحقيقة العلمية نقطة البداية لتلقين الأطفال ما هو إيجابي ونبتعد عن السلبيات. إن المعلمين والمدرسين والتربويين يقدمون ما يستوعبه الجانب الأيسر في أدمغتهم للطفل الذي يستعمل بدوره الجانب الأيمن من الدماغ في استقبال المعلومات والرموز، لتتشكل بذلك فروقات بين الطرفين في انسجام الأفكار وهيمنة دماغية لطرف على آخر. والجانب الأيسر من الدماغ يمكنه تحليل النص المكتوب والرموز المعقدة وأجزاء الحروف، وهو ما لا يستطيع الجانب الأيمن للطفل استيعابه كونه يعتمد على الأشكال والصور التي تترسخ في الجانب الأيمن من دماغه، وهو الجزء الذي يتفعل فيه نشاط عقلي هادف يؤدي إلى أفكار جديدة ويعبر عن حلول لمشكلة، رغبة في البحث عن حل منشود، والتوصل إلى نتائج لم تكن معروفة، لذلك يجب الاعتماد على متطلبات دماغ الطفل التي تنحصر في معطيات تتناسب مع تكوينه الدماغي. ولتوثيق علاقة الأطفال في الكتاب، أكدت أنه يمكن لنا أن نوظف الروابط العصبية للأطفال في تبنيها فكرة أن الكتاب رفيق لهم منذ الصغر، فمجرد حمل الطفل للكتاب دائماً يولد بينهم علاقة ألفة، لتكون حافزاً لهم مستقبلاً في تحليل الرموز الدقيقة والنصوص المكتوبة بناءً على معرفته المسبقة بأن الكتاب رفيق له يتطور بتطور دماغه. وأشارت إلى أن نتاج علاقة الطفل وهو بعمر الشهور مع الكتاب، تكون آنية ومستقبلية، فمجرد النظر وتلمس الطفل لصفحات الكتاب، تولد عنده حب الاكتشاف الذي سيتعزز مستقبلاً، ليميز ما كان قد اكتشفه في الماضي ليعرف حقيقته. يجب على دور الحضانات ورياض الأطفال ألا تعتمد في تعليم الأطفال على الوسائل ذات البعد الثنائي كالصور والكلمات، بل لا بد أن تستخدم البعد الثلاثي في تلقين الأطفال حقيقة المجسمات. علاقة حميمة قالت هالة إسماعيل الراوي مسؤولة حضانة ورياض للأطفال، إن علاقة الطفل بالكتاب والقصة علاقة حميمة، ولكن استمرارية هذه العلاقة تتوقف على ما يقدمه الكتاب للطفل من محتوى إضافة إلى كيفية تقديمه له، وهذه العلاقة تساعد الطفل على تعلم اللغة بشكل سليم وتحببه بالقراءة وتعلقه بالكتاب، وتفتح أمامه آفاقاً واسعةً من المعرفة والاكتشاف وتشبع فضوله. وأكدت أن عملية تصفح الكتاب مع الطِّفل وقراءته له بصوت واضح معبر، يجذب انتباهه ويشده إلى الكتاب. تعلم القراءة مبكراً قالت الدكتورة شيخة الطنيجي المتخصصة في أصول التربية بجامعة الإمارات، إن تربية الأطفال وتعليمهم منذ الصغر على فهم وتمييز المكتوب وكيف يؤدي وظيفته ضروره لا بد من غرسها في أذهانهم منذ بداية وعيهم، وهذا يمكن أن يؤدي دوره قبل امتلاك الطفل القدرة على تلقي الرسالة اللغوية بحد ذاتها، فعندما يدرك الطفل أن الكتاب يُقرأ من اليمين إلى الشمال، وأن صورة البطل فيه هو نفسه في كل الصفحات، فإنه يغدو قارئاً. ويستطيع الطفل بفضل صِلة مبكّرة مع الكتاب، تعلّم القراءة باكراً وسريعاً.