في الشارع الأردني، هناك رغبة عميقة لدى البعض في أن يرى وجوها جديدة غير التي استحوذت على مقاعد صنع القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وربما الإعلام، لعقود. فما إن يثار موضوع التغيير، حتى يعبّر أفراد وجماعات عن رغبتهم في تجديد الدماء، وإتاحة الفرص لطبقة جديدة من الشباب والشابات من خارج النخبة الاقتصادية الاجتماعية التي هيمنت على الفضاء السياسي الإداري، وسعت في غالبيتها إلى فرملة التغيير. هذا العام، كانت الانتخابات البرلمانية مناسبة لتحقيق شيء من هذه الرغبة. فعلى الرغم من كل الذي قيل عن سطوة المال السياسي، وتعقيدات وغموض النظام الانتخابي، وحالة الفتور الشعبي الناجم عن ضعف الثقة بقدرة النواب على تمثيل الإرادة الشعبية والتشكيك في إمكانية مساهمته الفاعلة في التغيير، فإن ما حدث في الأيام الماضية يدفع بالمراقب إلى إعادة التفكير بصحة هذه المقولات ومدى تأثيرها على مخرجات العملية الانتخابية، وقدرة الناخبين وإرادتهم على تجاوز قوة وتأثير بعض هذه العوامل والحد من القيود التي تضعها على إرادة الناخبين وخياراتهم. فما إن أُقر قانون الانتخاب الجديد ودخل حيز التطبيق، حتى باشر العشرات من الرجال والنساء في دوائر المملكة الانتخابية الإفصاح عن رغبتهم في المشاركة، من خلال وسائل ناعمة تمثلت في تكثيف حضورهم للمناسبات العامة والمحلية، والمشاركة في الأفراح والأتراح، ومحاولة إجراء التقييم الأولي لمدى قبول أو رفض مجتمعاتهم المحلية وعشائرهم لفكرة ترشحهم، والعمل على استمالة أصحاب النفوذ والتأثير لدعم ترشحهم. إضافة إلى تطوير خطاب داعم للعملية الانتخابية ومشجع على المشاركة فيها. المرشحون للمجلس الثامن عشر، رجالا ونساء، جاؤوا من كل الخلفيات العلمية والعشائرية والمهنية والسياسية، تجمعهم الرغبة في التغيير، والإحساس بأن لديهم ما يمكن أن يقدموه لرفد عملية التغيير والإصلاح. وفي حالة أدهشت المراقبين، أقبل على الترشح ما يزيد على ألف ومائتي شخصية، كانت نسبة النساء بينها تقارب العشرين في المئة، فيما غاب عنها المئات ممن عملوا في السياسة والإدارة والاقتصاد والأحزاب، لأسباب ليس أقلها الخوف من الفشل، وعدم الرغبة في مواجهة جماهير الناخبين والتعامل مع مظاهر نقمتها على المسؤولين السابقين ومحاولات التحشيد ضدهم. لم يكن السباق نحو القبة سهلا ولا واضح الشروط، كما كان في المرات السابقة. بعض الذين نجحوا في دوائر عمان والزرقاء، وحتى دوائر الأطراف، لم يحصلوا على أكثر الأصوات في دوائرهم. لكن نتائج العملية كانت صادمة للعشرات ممن اعتادوا الفوز في كل مرة من دون عناء. في الكثير من مناطق المملكة ودوائرها الانتخابية، نجح الناخبون في التعبير عن خياراتهم بعيدا عن سطوة المال والنفوذ السياسي الذي يتمتع به مرشحون وعائلاتهم؛ فرفض هؤلاء الناخبون التجديد للعشرات ممن شغلوا مقاعد المجلس السابع عشر، ودفعوا للقبة بستة وسبعين وجها جديدا، في أوسع محاولة جماهيرية لتجديد النخب السياسية. صحيح أن بعض القادمين الجدد يتمتعون بنفوذ مالي وسياسي سهّل إقناع الناخبين بمزاياهم، ومكنهم من الاستمالة والتأثير، لكن ذلك لا ينفي أن التجديد الذي أحدثته الأمة على تركيبة مجلسها النيابي الثامن عشر يفوق كل التوقعات، ويشكل ظاهرة تستدعي التأمل والتحليل. فمن ناحية، استطاع المد الشعبي وقف بعض الأثرياء الذين أنفقوا مبالغ طائلة في محاولات للضغط على إرادة الناخبين وشراء ذممهم. كما أثبت الناخب الأردني، في العديد من الدوائر، أنه قادر على محاسبة ممثليه ومعاقبتهم إذا لزم الأمر. في العديد من الدوائر الانتخابية، كانت نتائج قدامى النواب شبيهة بنتائج مدارس في الريف الأردني في امتحان الثانوية العامة، حيث الناجحون لا أحد. في المجتمعات الزراعية، تقدمت النساء على الرجال؛ فقد فازت النساء في كل من الأغوار الجنوبية وجرش وعجلون بمقاعد تنافسية، في حين استبدلت بعض المجتمعات كامل ممثليها في المجلس السابق. حجم التجديد الذي شهده المجلس النيابي الجديد يعبر عن رغبة شعبية في تبديل النخب وتنويع خلفياتها ومشاربها، فهل ستبدل بقية المؤسسات كوادرها؟ الغد