في تل أبيب، اصطف جميع زعماء إسرائيل بلا استثناء بمطار بن جوريون لاستقبال السادات، واحتشدت شوارع القدس بالإسرائيليين ترحيبا بزيارة أول زعيم عربي، حاول السادات دعم الجبهة العربية باتخاذ موقف موحد فطلب من الأسد وعرفات الانضمام له في ما سوف يقترحه على الإسرائيليين لإعادة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، فما كان منهما إلا الرفض القاطع وإخباره بأنهما ماضيان في إكمال كفاحهما المسلح، فاضطر السادات لخوض مباحثات السلام وحده واستعادة الأراضي المصرية المحتلة بمعزل عن بقية الأراضي العربية الأخرى. كان لعملية السلام وقتها رد فعل عربي صادم ومفاجئ وعنيف، فالشعوب العربية كانت غارقة حتى النخاع في أحابيل أوهام الوحدة العربية والقومية ولم تستطع فهم المتغيرات التي فرضها الوجود الإسرائيلي في المنطقة، وعقب زيارة السادات للقدس انبرى بعض الزعماء -منهم حافظ الأسد، ومعمر القذافي، وانضمت لهما إيران بعد ثورة الخميني- برفض مبدأ التفاوض مع إسرائيل متبنين وجهة النظر الناصرية بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وكان أكثر ما شككوا فيه هو وجود بنود سرية في اتفاقية كامب ديفيد فيها مهانة للعرب -وهو الأمر الذي لم تثبت صحته إطلاقاً- ثم بدأوا في انتقاد اشتراط إسرائيل عدم وجود قواعد عسكرية قرب الحدود باعتباره شرطا يحد من السيادة المطلقة لمصر على كافة أراضيها، والغريب في الأمر أن هذا الشرط كان متوقعاً، فلا توجد دولة بالعالم ترضى بوجود قواعد عسكرية على حدودها، فكيف بدولتين استمر الصراع بينهما لعدة عقود؟ انتهت مباحثات السلام بعودة سيناء لمصر عدا طابا التي تمت استعادتها بعد اللجوء للتحكيم الدولي، ثم تم اغتيال السادات على يد أعضاء تنظيم الجهاد الإسلامي والذي كان مناهضاً لاتفاقية السلام، رغم عدول أعضائه عن ذلك فيما بعد وتصريحهم بأن «السادات مات شهيداً في صراع فتنة». على الجانب الآخر فاض بالقيادة والأحزاب اللبنانية الكيل من تدخل الفلسطينيين في مختلف مناحي الحياة اللبنانية، واندلعت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وزاد الأمر سوءاً انتشار الجيش السوري في لبنان بحجة ضبط الأمن بسبب ضعف الحكومة اللبنانية، فما كان من بشير الجميل -زعيم حزب الكتائب- إلا التحالف مع الإسرائيليين لطرد الفلسطينيين والسوريين من لبنان، واجتاحت إسرائيل لبنان وبدأت في تعقب الفلسطينيين حتى كادوا يقضون عليهم، لولا تدخل الملك فهد -رحمه الله- للضغط على حكومة ريجان لخروج المنظمة بشكل آمن لتونس، وفي تونس غيرت المنظمة استراتيجيتها وتوقفت عن شن عمليات فدائية عبر الحدود، ولجأت تاريخيا لما يعرف بالانتفاضة والعمليات الانتحارية داخل إسرائيل ذاتها، لكن هذه الانتفاضة لم تؤت ثمارها رغم سقوط الآلاف من فلسطينيي 48 بسبب شراسة المواجهة بين الجيش الإسرائيلي وبين أبناء الانتفاضة. بعد حرب الخليج الثانية وطرد العراق من الكويت ضغطت الحكومة الأمريكية على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي للدخول في مفاوضات السلام في مؤتمر عقد بمدريد عام 1991، والذي عقد بعده عدة لقاءات عرفت باتفاقات أوسلو، لم تتقبل حكومتا إسرائيل والولايات المتحدة ياسر عرفات كزعيم للفلسطينيين بعد أن تم تصنيفه كأحد زعماء الإرهاب، وبعد وساطات عربية اشترطت الحكومة الأمريكية على عرفات وقبل الدخول في أي مفاوضات مع الإسرائيليين شرطين أساسيين: الأول هو أن يعلن صراحة اعترافه بحق إسرائيل في الوجود كدولة، والثاني: تخليه عن أي عمليات إرهابية مسلحة ضد إسرائيل، قبل عرفات ذلك وأعلن قبوله لهذين الشرطين إضافة إلى قبوله بإقامة الدولة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة فقط -وهو ما كان يرفضه الفلسطينيون تماما قبل ذلك- ولا تزال المفاوضات بين الجانبين قائمة منذ عشرين سنة وسط تعثر واضح وتصلب من الجانب الإسرائيلي. من المؤكد أن تقييم التاريخ يعتبر من الأمور المعقدة بحق، وما قمت بنشره خلال أربع حلقات متتالية من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كان بمثابة توطئة للحديث عن مستقبل هذا الصراع، فقد عرضت تاريخا دمويا بين الطرفين لم ينته إلا بتنفيذ اتفاقية السلام، والتي بمجرد دخولها حيز التنفيذ بدأت الدول العربية محل الصراع مسيرة تنميتها الصاعدة، والتي لم تكن لترى النور وكل إمكاناتها معطلة لصالح الحرب، والتي كان يصعب عليهم الفوز بها بسبب اختلال ميزان القوى الذي يصب مباشرة لصالح الطرف الإسرائيلي، فالدول العربية لم تكن –كما صرح السادات- تحارب إسرائيل وحدها بل كانت تحارب الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بأكمله بكافة منظماته المهيمنة على مفاصل حل الأزمة. ما عرضناه هنا يمهد لتنشئة أجيال تؤمن بالسلام بعيدا عن التعصبات العدائية والتصريحات الرنانة الكاذبة، فكثير من الزعماء الذين انتقدوا إسرائيل على منابرهم، ارتموا في أحضانها تحت جنح الظلام، فنظام الخميني استعان بوسطاء إسرائيليين لتوريد السلاح لها في حربها مع العراق، وحافظ الأسد أوعز إلى سفيره في الولايات المتحدة العام 1995 –وقتئذ وليد المعلم- بالتفاوض مع حكومة إسحاق رابين لاستعادة الجولان، أما القذافي فقد طلب من إحدى الشركات الإسرائيلية مساعدته في الحصول على السلاح لقتل أبناء شعبه مقابل اعترافه بهم في حال إجهاض الثورة، وغيرهم وغيرهم. المثير للدهشة أن هناك الكثير من الشعوب العربية -خارج الصراع الإسرائيلي- لاتزال ترفض فكرة السلام والتطبيع مع إسرائيل، في الوقت الذي نجد فيه أن غالبية أطراف هذا الصراع وهم مصر والأردن وحتى الفلسطينيون أنفسهم قبلوا بمبدأ السلام والتطبيع، فبدا هؤلاء كمن يغرد خارج السرب أو يبكي على أطلال غيره، وما نريد أن تعرفه الأجيال القادمة هو أن تقدير الواقع وفهم متغيرات العصر هو واجب وليس نافلة، فنحن لن ننتصر على إسرائيل بمجرد شتمها، ولكننا نتفوق عليها بالعلم والذكاء والحكمة. من المؤكد أيضاً أنه لن يغيب عن أذهاننا الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل بحق أمتنا العربية، ولكن ما يجب أن يكون حاضرا في أذهاننا أكثر هو أننا لن ننتصر عليها إلا بتكاتفنا كأمة إسلامية قوية تتعامل مع الواقع كما هو وليس مع الترهات التي تزينها الأبواق الإعلامية المخادعة، ومن ناحية أخرى فإن على إسرائيل في المقابل أن تؤمن بأن ضمانة وجودها آمنة في محيط العالم العربي هو أن تتمسك هى الأخرى بالسلام شكلا وموضوعا، فالسلام الذي قبلت به الأجيال الحالية قد ترفضه أجيال المستقبل، كما أن التعاطف الغربي معها قد لا يدوم فلا يوجد مطلقاً ثوابت في عالم السياسة.