توفي الأسبوع الماضي الشاعر والكاتب اللبناني أنسي الحاج عن عمر يناهز ال 77 عاماً، بعد معاناة طويلة مع مرض سرطان الكبد، ويعتبر أنسي الحاج من أوائل الأسماء التي ساهمت في تطوير القصيدة الحديثة وإعطائها أبعادا وفضاءات لم تكن موجودة في السابق، بالإضافة إلى تاريخه الصحفي والثقافي. وفي دراسة -وهي فصل من كتاب قيد الإعداد- حاولت قراءة تلك الجذور الضائعة (أو الأصل الغائر) عند أنسي الحاج شاعراً دافع بشراسة مبررة عن جنس أدبي في الشعر يغذيه الحلم في صراعه مع كوابيسه الذاتية، وهو جنس قصيدة النثر، من حيث تضليله على الظاهر فيما يتصل عميقاً بتجربة الشعر عند إنسان هذه المنطقة التي تعج بالأرومة السامية في فروعها وأخلاطها عبر قراءة شهادة تأخر نشرها طويلاً تكشف سلالة نسب في جذر لم يكن من الخارج أبداً كما يتوهم ويسوَّق من مضلَّلين وضالِّين، وندفع بدراسة هذه الشهادة إلى قراءة نموذج حاف بتجربته الشعرية هو ترجمته أو إعادة كتابته لنص نشيد الأناشيد من واقع ترجمتيه اليسوعية (الكاثوليكية) والأمريكية (البروتستاتية)التي شارك بها مثقَّفو القرن التاسع عشر من مثل بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق ويوسف الأسير.. عراء الأيقونة في أن آتي الأيام الماضية لا محالة فيه.. ..يثبت أنسي الحاج في شهادة كتبها عام 1988 وأضاعها بين أوراقه الشاعر والصحفي نوري الجراح أثناء التحضير لإصدار مجلة: الناقد آنذاك فلم يجدها إلا عام 2002 حين نشرت في مجلة: نزوى العمانية كاشفةً حسب إيضاح الحاج إلى أثر شعري عربي - مسيحي لكتابته قصيدة النثر تمثَّل في تجربة شاعرين وكاتبين لبنانيين كبيرَيْن غيَّبهما: الجهل والتكاسل العربيين: فؤاد سليمان (1912-1951) وإلياس خليل زخريا(1913-1959)، فيقول عن الأول في شهادته:"من الكتاب اللبنانيين الذين تأثرت بهم آنذاك أذكر على سبيل المثال فؤاد سليمان الذي اطلعت على كتاباته بالمصادفة وقد أعجبني نبض كتاباته خصوصاً في مقطوعاته السريعة لأن هاجسي الحقيقي، كان البحث عن الكتابات التي لا ملل فيها.[..] فؤاد سليمان أثر فيَّ كثيراً آنذاك. كان يوقع كتاباته باسم (تموز) وكان يكتب في شؤون متعددة في السياسة والمرأة والحب والمودة بأسلوب غنائي متوتر فيه واقعية وفيه رومانطيقية، فيه لغة حية وجديدة. [..] فؤاد سليمان شاعر موهوب ومجدد على طريقته دون أن يدعي التجديد، إنه بحق أحد الذين أثروا فيَّ وجعلوني أكتب ما كتبت". .. ولابد أن نشير إلى تواصل علاقة الحاج بسليمان بعد وفاته، فقد كتب عن ذكرى وفاته أكثر من مرة، وهذا وفاء لا غبار عليه من الحاج تجاه أي مبدع حقيقي، فقد كتب عام 1955 في الأجيال الجديدة مقالة: قمة، وفي عام 1956 مقالة: دمامة وجهه بنى دمامة جماله، وفي عام 1963 في صوت الشباب مقالة: فؤاد سليمان حاضر، وأشار إلى عفويته الانفعالية في الكتابة الأدبية أكثر من مرة في زاوية: كلمات. كلمات. كلمات بملحق النهار، ومحاضرات حول تجارب أدباء لبنانيين.. .. وأما عن الثاني فيصل شهادته بقوله:"وبعد ذلك اطلعت على كتابات كاتب آخر اسمه إلياس خليل زخريا وهو شاعر وكاتب مغمور ومظلوم، وكتاباته النثرية، هي شعر فعلاً رغم أنه كان يرى في كتاباته تلك كتابات نثرية فحسب. تقرأ إلياس خليل زخريا فتخال نفسك في كاتدرائية فخمة وشديدة الجمال، كان البعض يشبِّهه بأمين نخلة ولكنه مختلف، في رأيي، عن أمين نخلة". ..وإذا كنا ندرك أن هناك شعراء مثل أمين نخلة وسعيد عقل، إلى جانب شعرهم، كتبا نثراً رائعاً فلا نستبعد أثره على أنسي الحاج ومجايليه: شوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة وعصام محفوظ إلا أن أثر فؤاد سليمان وإلياس زخريا وقبلهما جبران خليل جبران كذلك كتابات الشعر المنثور عند جماعة: مجلة الأديب (1942-1983) التي نشر بها شعراء لبنانيون وعرب المشرق كاللبناني ألبير أديب(صاحبها ومحرِّرها)، والأردنية ثريا ملحس، والسوري سليمان عوَّاد، والعراقي محمود البريكان، والسعوديَيْن محمد العامر الرميح وناصر بوحيمد وأخته سارة بوحيمد، لا يمنع أن تكون، مع مجلات وصحف أخرى، مؤثرة مباشرة على تجربة الكثير من شعراء مجلة شعر خاصةً، والشعراء الفرادى في الأقطار العربية مثل: العراقي حسين مردان، والمغربي محمد الصباغ، واليمنية أبكار السقاف، والمصري لويس عوض، والسعودي محمد حسن عوَّاد.. .. ومجرد الاطلاع على نماذج من كتابات فؤاد سليمان ستكشف صور تلك الجذور الضائعة لأنسي من خلال دراسات نقدية عازلة لقراءة تجربة الشعر العربي خارج الإطار الإيديولوجي السالب، وهذا نموذج من يومياته الخاصة التي جمعت في كتابه: يوميات ورسائل. ..ويمكن مطالعة كتبه الثلاثة الأخرى: درب القمر، تموزيات (زاوية: صباح الخير في النهار بين 1949-1951) والقناديل الحمراء، الذي قدَّمه الحاج بمقالة: غنائية الجمر العاري عام 1963، وكذلك كتابات إلياس خليل زخريا في زاوية: ثمالات بمجلة الأديب عام 1942 لتكشف صلةً عميقة الجذور عند الحاج.. ..إن مطالعة نصوص أخرى كالمجموعة الشعرية الملهمة: لمن-1953 لألبير أديب (الواضح أثر اسمها على اختيار اسم مجموعة: لن-1960 للحاج) أو قبلهما مجموعة: المفكرة الريفية-1942 لأمين نخلة، وسريال-1947 لأورخان ميسر وعلي الناصر، والنشيد التائه-1949 لثريا ملحس وقصائد عارية-1949 لحسين مردان وثلاثون قصيدة لتوفيق صايغ-1954 وشجرة النار-1955 لمحمد الصباغ وسمرنار-1957 لسليمان عوَّاد ورؤى أبولون-1957 لمحمد حسن عوَّاد وسواها لتكشف ذلك التواصل لجذور متنوعة من كتابة خارج الصورة المغلقة والقاصرة للشعر العربي موزوناً ومقفًّى ومغنًّى.. ..وفي هذه المجموعات وسواها توالت اصطلاحات: الشعر الحر(الريحاني) وقصائد منثورة (جبران)والشعر المرسل (أبو شادي) ونثر مركز (مردان) والشعر الطلق (أديب) المصطلح الذي وراء مقالة كتبها أنسي الحاج في النهار وأعيد نشرها في مجلة الأديب: من عرف العرب بالشعر الطلق؟-1957، مما يمثِّل إرهاصاً لبلورة مقدمة مجموعة: لن-1960 وطرحها لاصطلاح: قصيدة النثر تحت أثر أطروحة سوزان برنار(كتاب: قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا بالفرنسية-1958 وبالعربية كاملاً-1998) فيما كانت تجربة الحاج سابقة في كتابتها على هذه المقدمة، ولكن تشكِّل هذه المقدمة في النقد صدمة البيان الشعري لتحريك السجال النقدي حيال حركة التطور الأدبي عامة، والقصيدة العربية خاصة، وهذا يؤكد الصلة الواضحة إلى المصدر العربي كما يؤكد في شهادته فقصيدة الحاج المولود عام 1937 بقيت رهن الأثر الأدبي العربي ما بين عام تطور ملكته الشعرية في مراهقته وفتوته حتى شباب عمره في الثالثة والعشرين سنة صدور مجموعته: لن-1960. ..ينهي هذه الفقرة-في شهادته-عن مصدره العربي من شهادته المهمة الملفتة:"إن جذوري الشعرية والأدبية هي جذور عربية ليس لها علاقة إطلاقاً بالقصيدة الأجنبية. جذوري عربية شكلاً ولغة، وتأثري إنما تم على أيدي أولئك الذين أشرت.[..] إن مصادري الأولى كلها عربية، ولا أقول ذلك بفخر ولا بخجل، ولكن لإقرار واقع"، ..وبعد هذا سيتحدث الحاج في شهادته المشار إليها عن علاقته بالشعر الفرنسي ثم أثر أندريه بروتون لاحقاً ما بعد انضمامه إلى مجلة شعر ناقداً ومترجماً حيث سنبحث ذلك لاحقاً. ..ونذكر من شهادة انسي الحاج في هذا السياق قوله: "اطلاعي على القصيدة الفرنسية الحديثة جاء بعد أن نشرت في مجلة (شعر) وليس قبل ذلك. لكن الذين كتبوا عني لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث، فمرة يقولون إنني تأثرت بكتاب سوزان برنار(قبل أن يصدر كتابها [ صدر كتابها بالفرنسية1958] )ومرة يقولون إنني تأثرت بأنطوان أرتو رغم أنني لم أتأثر بكلمة واحدة من شعر أرتو". ..وفي سياق ما يروج من تأثره بأحد رواد السيريالية الفرنسية بروتون فيقول:"هناك اعتقاد آخر يقول بتأثري بأندريه بروتون الذي ترجمت له قصائد ونشرتها في مجلة (شعر) وكتبت عنه مقالاً عندما توفي. وإذا كان لا بد من البحث عن تأثري بالشعر الأجنبي فلربما كان بروتون أكثر الشعراء الأجانب تأثيراً فيَّ، ولكن ليس إلى درجة، التمثل والطغيان". ..إذا كانت مسألة خصوصية التجربة عند أنسي الحاج هي ما يشدد عندما يقول: "أعتقد أن شعري هو شعر شخصي جداً" فإننا ننتهي إلى اعتبار ترجمة فليكس فارس(ت.1939)، الأديب والخطيب كما أنه الصديق لجبران، لد آثار فريدريك نيتشه الكبيرة: هكذا تكلَّم زرادشت (الألمانية 1884،العربية 1935 )كانت إحدى المصادر الأساسية في تطور الكتابة الأدبية العربية، والشعرية خاصة، كما هي تطور للكتابة العربية من خلال فارس نفسه، التي تنكشف عند جذور أسلوب كل من المفكِّر عبد الله القصيمي والشاعر أدونيس وآخرين.. ..إن الحاج تأثر بكل ما كان يلصق بتجربة جماعة شعر من توسيخ إيديولوجي من جهات مناهضة ومضادة لكون الآباء المؤسِّسين لها، مثل يوسف الخال وأدونيس ونذير العظمة وفؤاد رفقة، يعدون من أبرز مثقفي الحزب السوري في جيله الثاني، وربما هم الذين حملوا ما يوافق تطلعاتهم التحرُّرية في الثقافة، خاصة، في الفن والأدب بينما العرب لا تفرق بين القرابة والانتماء، فيقول الحاج في إجابة عن تلك المعارك التي ناورت التجربة: "وسط تلك الأجواء التي لا تريد أن ترى إلا العمالة في المجانيَّة، والخيانة في التجدُّد، والرجعيَّة في التقدميَّة". ..لعل تجربة أنسي الحاج الطالعة من مسيرة متحولة ذات تدرج مجهول للكثيرين في كتابته للمقالات الثقافية والسياسية والنقدية، والقصص، وترجمة المسرح، بالإضافة إلى قصائده وخواتمه كذروة لتجلي الكتابة عند أنسي الحاج، فإن ما حققته التجربة على صعيد قصيدة النثر تعد حالة قصوى من مسيرة الأدب العربي في الشعر ولكنها حالة قصوى لا في الصعود بل في اتساع الدوران الحلزوني لحركية الإبداع في الشعر العربي ومنها جاءت آثار نثبتها: 1-نقل التسمية بدفعها من الشعر المنثور إلى قصيدة النثر. 2-تخليص الالتباس في الصفة ضمن المفهوم الثقافي. 3-شرعنة النص أدبياً في عده نوعاً وشكلاً شعرياً. 4-تفكيك أدلجة النص الأدبي تحريراً للإنسان قبل الشاعر. ..وعلى هذا، فإن تجربة أنسي الحاج تعطي لنا تحولاً دقيقاً وحساساً يكشف جذوره الضائعة ويسقط التباسات النبذ والبتر في لعبة ثقافية سالبة بالمجاهلة والمحاجبة نحو لعبة ثقافية إيجابية بالوصل والاطراد دفعاً لمسيرة اكتمال الدائرة وانكسار للدورة لا فراغها وتكرارها بل في تجددها وتحولها.. سيرة أنسي الحاج ولد عام 1937 والده الصحفي لويس الحاج ودرس في مدرسة الليسيه ثم معهد الحكمة. بدأ ينشر قصصاً قصيرة وأبحاثاً وقصائد منذ 1954 في المجلاّت الادبية كالأديب والمكشوف وهو على مقاعد الدراسة الثانوية. دخل الصحافة اليومية (جريدة "الحياة" ثم "النهار") محترفاً عام 1956، كمسؤول عن الصفحة الادبية. ولم يلبث ان استقر في "النهار" حيث حرر الزوايا غير السياسية سنوات ثم حوّل الزاوية الادبية اليومية إلى صفحة ادبية يومية. نقل إلى العربية منذ 1963 أكثر من عشر مسرحيات لشكسبير ويونيسكو ودورنمات وكامو وبريخت وسواهم، وقد مثلتها فرق مدرسة التمثيل الحديث (مهرجانات بعلبك)، ونضال الأشقر وروجيه عساف وشكيب خوري وبرج فازليان. عام 1964 أصدر "الملحق" الثقافي الاسبوعي عن جريدة "النهار" وظلّ يصدره حتى 1974. وعاونه في النصف الأول من هذه الحقبة شوقي ابي شقرا. عام 1957 ساهم مع يوسف الخال وأدونيس في تأسيس مجلة"شعر" وعام 1960 اصدر في منشوراتها ديوانه الأول "لن"، وهو أول مجموعة قصائد نثر في اللغة العربية. تولى رئاسة تحرير العديد من المجلات إلى جانب عمله الدائم في "النهار"، وبينها "الحسناء" 1966 و"النهار العربي والدولي" بين 1977 و1989. رئيس تحرير "النهار" من 1992 إلى 30 ايلول 2003 تاريخ استقالته. متزوج من الممثلة ليلى ضو (منذ 1957) ولهما ندى ولويس. مؤلفات أنسي الحاج ديوان " لن" /1960 ديوان "الرأس المقطوع"/1963 ديوان " ماضي الأيام الآتية"/1965 ديوان " ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟"/1970 ديوان "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"/ 1975 ديوان "الوليمة"/ 1994 كتاب "كلمات كلمات كلمات" / ثلاثة اجزاء/مقالات/ 1978 كتاب "خواتم"/جزءان/1991 و 1997 أنطولوجيا "الابد الطيّار" بالفرنسية في باريس عن دار "أكت سود" عام 1997 أنطولوجيا " الحب والذئب الحب وغيري" بالألمانية مع الاصول العربية في برلين عام 1998. في نيسان 2007 صدرت الأعمال الكاملة لأنسي الحاج في طبعة شعبية، في ثلاثة مجلدات ضمن سلسلة “الأعمال الكاملة” عن “هيئة قصور الثقافة”. ضمّ المجلد الأوّل: “لن”، و“الرأس المقطوع”، و“ماضي الأيام الآتية”. والثاني: “ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة؟” و“الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع” و“الوليمة”. فيما حوى الثالث كتاب “خواتم” بجزأيه.