جلس الدكتور منصور على مكتبه، وراح يمسح العرق عن جبينه، وقد وضع نظارته أمامه فوق كومة الأوراق، ونسخة المحاضرة التي ألقاها.. وقال متأففاً: مهنة التدريس مهنة نكد ومؤذية. رد الدكتور سليمان.. هذا اكتشاف جديد ألست من المتحمسين للتدريس؟! صحيح، ولكنني بدأت أشك في سلامة رؤيتي ونظرتي نحوه!! تصدّق؟.. لقد كان الطلبة يأكلونني عندما رحت أشرح لهم نظرية داروين..!! ساد الصمت قليلاً.. فقد كان الدكتور سليمان مشغولاً بتصحيح بعض الأوراق، والدكتور منصور يريد ان يخلد إلى قليل من الراحة الذهنية. أما الدكتور عثمان أستاذ الفيزياء، فقد كان صامتاً يتأمل في السماء الصافية، من خلال النافذة الزجاجية الكبيرة. دخل الدكتور حسان أستاذ الفلسفة وهو يصفر بلحن أغنية شعبية قديمة.. قائلاً: حضرات الدكاترة، صباح الخير.. ثم متابعاً: مالكم هكذا تبدون واجمعين؟! هل حلت كارثة بأمريكا أو روسيا؟ أو ببائع شطائر الفول يا دكتور منصور؟! فتح حقيبته وهو يدندن، ويصفر بالأغنية إياها وقد أخرج «شطيرة فول» اشتراها للتو وراح يلوكها.. وبعد أن ازدرد اللقمة الأولى صاح بهم: يا جماعة مالكم اليوم كأنكم عجائز في مأتم؟! ضحك الدكتور سليمان وهو يضع يده على نظارته، ويرفع قلمه عن الورق ويقول: الدكتور منصور!! ما به؟! خيراً إن شاء الله. كاد الطلبة يأكلونه!!! قال الدكتور حسان مداعباً: سيكون وجبة دسمة. الدكتور منصور سمين، ومترهل الجسم، برغم انه ليس كبيراً في السن.. نظر الدكتور منصور إلى حسان قائلاً: أنا أستغرب جداً.. كيف تفطر على جرة فول يومياً مع توابعها، وما بين الحصة والأخرى تقضم وتفرم هذه «السندويتشات».. ومع هذا فجسدك نحيل وأشهب، وكأنك في قلب مجاعة أفريقية!! ضحك الدكتور حسان وهو لا يزال يلوك لقمته.. ويقول: أنا من سلالة لا يزيد وزن فردها على ستين كيلو جراماً حتى لو أكل حيتان المحيطات، وشرب مياه الأنهار!! فاطمئن لن أكون مترجرجاً في يوم من الأيام.. ضحك الدكتور منصور وهو يقول: لا شك في أن السلالة الكريمة تنتمي إذاً إلى سلالة السحالي! غمزه الدكتور سليمان قائلاً: أراك يا دكتور منصور خرجت عن نظرية داروين، فلماذا تلوم طلابك؟! ضحك الجميع. وأتبع حسان: دعونا نتكلم بجد.. أليست نظرية داروين مثار جدل يومي في الأوساط العلمية في الغرب.. ثم بدأت هذه النظرية تأخذ في الأفول؟! رد الدكتور منصور: هي مجرد نظرية قائمة على قرائن، وهذه القرائن لم تكتمل بعد لكي تصل النظرية حد اليقين.. ولم تنتف نهائياً كي تصل حد الرفض والإسقاط.. ونحن نتحدث عنها كنظرية عليها ما عليها، ولكنها تظل موجودة وقابلة للنقاش والمداولة. قال الدكتور حسان: يا جماعة، أنا تراودني من زمن، نظرية مخالفة لنظرية داروين!! وكنت أنوي التحدث عنها، ولكنني متردد خشية من الهيجان والضجيج والاتهامات التي قد تؤدي بها إلى ما لا تحمد عقباه. نظروا إليه جميعاً في دهشة ولهفة لما سيقول.. ورددوا: ما هذه النظرية؟!! النظرية هي نظرية «الانحطاط والتخلف» أي أنها معاكسة تماماً لنظرية داروين.. «الارتقاء والتطور». إن النظرية تعتمد على أن الإنسان وجد كاملاً «وهذا ما أعتقده طبعاً كمؤمن».. أما مسألة التطور والتقدم المعرفي فقد جاء من خلال تراكم التجارب الطويلة عبر حياة الإنسان.. فهي التي أوصلتنا إلى حضارة اليوم.. وليس لأن الإنسان اليوم أكثر تكاملاً في عقله من الإنسان القديم، بل العكس.. فإنسان اليوم أكثر تهوراً ونقصاً في حكمته، وهو يسعى إلى تدمير نفسه بشكل نهائي.. كبعض الكائنات التي اختفت عن الوجود. قال الدكتور سليمان في حماسة: مثل ماذا؟ نعم.. هناك كائنات جبارة تدرجت نحو الانحدار، حتى انقرضت وبقيت سلالتها الضعيفة كالديناصورات. فالديناصورات.. في نظري لم تنقرض دفعة واحدة، وإنما تدرجت نحو الضعف والانحطاط حتى وصلت إلى التماسيح والسحالي! الحمير مثلاً منحدرة من سلالة الخيول، أي من السلالة الأرقى.. القط منحدر من سلالة الأسود أي من السلالة الأقوى.. رفع الدكتور عثمان رأسه قائلاً: هذه تحتاج إلى تأمل ودراسة حقيقية.. تابع الدكتور حسان: ليس هذا في عالم الحيوان فقط، بل في عالم النبات.. فهناك آلاف النباتات الضعيفة كانت منحدرة من أصول قوية.. بل إنه من الواضح لعلماء الزراعة أن بعض النباتات صارت تضعف في شكلها وطعمها عما كانت عليه من سنوات قليلة، كالتين والتفاح والأعناب.. فلم تعد بالكبر والطعم اللذين كانت عليهما قبل ثلاثة عقود أو أربعة في بعض البلدان. ضحك الدكتور عثمان وقال: «والله، التفاحة في بلدنا صارت صغيرة زي النبقة». استمر د. حسان: وهكذا فإننا نرى كثيراً من الأشياء في عالمنا تسرع نحو الانحدار. وبناء على ذلك، فإن القرد في أصله إنسان.. ولكن ربما إن فئة من الكسالى في فترة من الفترات لم تتمكن من مقاومة الظروف الصعبة كالرحيل والدخول في المعارك.. فظلت في كسلها واندمجت مع كثير من البهائم في الغابات، فأخذت طباعها وراحت تقلدها، فانحدرت هذه الفئة تدريجياً، وانمسخت من عالم البشرية إلى عالم القردة.. يتبع..