ربما لأنها بدت طويلاً عتلة أساسيّة في مسار العولمة، بات شبه بديهي النظر إلى شبكة الإنترنت كأنها تطرح نظاماً عالميّاً جديداً. ولأن أميركا هي أيضاً بلد المقرّ والمستقر للخوادم العملاقة الأساسيّة التي تدير الحركة الإلكترونيّة عبر الإنترنت، بدا بديهيّاً النظر إلى تلك الشبكة كجزء من النظام الذي قادته أميركا عالميّاً منذ النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين. في المقابل، هناك قول فلسفي يشير إلى أنّه «في قلب كل بداهة، يوجد... فراغ». ويعني ذلك ضرورة التحوّط قبل القبول بما يبدو كأنّه بديهي. ألا تشرق الشمس من خلف جبال ثابتة، وتدور في كرة السماء، ثم تنزلق صوب الغرب، فهل تلك الأشياء بداهة؟ تحضر تلك الانطباعات عند محاورة وجهة نظر المفكّر الفرنسي برونو دلماس، وهو أستاذ أكاديمي في «المعهد الوطني الفرنسي للمواثيق» في جامعة السوربون، عن شبكة الإنترنت وإملاءاتها. إذ يرى أنّ الإنترنت تفرض نظاماً عالمياً جديداً، يترافق مع نظام آخذ في التبلور مع صعود الصين والهند في مجالات تشمل المعلوماتيّة والاتّصالات المتطوّرة، وكذلك تطوّر العولمة في كل مجالات التبادل. لماذا الصين تحديداً؟ لأنّه من الممكن وفق خبراء للمعلوماتيّة واقتصاداتها أن تصبح الصين المنتج العالمي الأول للكومبيوتر والأجهزة الذكيّة بأنواعها. وقد ظهرت إشارة أولى إلى ذلك التحوّل في مطلع القرن الـ21، عندما اشترت الصين قسم صناعة الـ «لاب توب» في شركة «آي بي أم» IBM العالميّة، وسمّتها «لينوفو» Lenovo واستطاعت الحفاظ على نوعية الحواسيب المحمولة التي تنتجها، قبل أن تنتقل إلى إنتاج أنواع أخرى من الأجهزة الإلكترونيّة الذكيّة. الهند وصناعة المعلومات في المقابل، يشير دلماس إلى رهان على أن تتصدّر الهند صناعة برمجيات الكومبيوتر عالميّاً، خصوصاً بعد نموها السريع استناداً إلى استراتيجيّة التعهيد («آوت سورسينغ» Out Sourcing) الذي ربطها بالشركات العملاقة في المعلوماتيّة، خصوصاً شركة «مايكروسوفت» العملاقة. ويتولد من تلك التغيّرات الاقتصاديّة في التكنولوجيا الحديثة نظام عالمي جديد، شمل الدول الغربية وآسيا، قبل أن يمتد إلى أفريقيا، وأميركا اللاتينيّة، والعالم العربي. ويعتقد دلماس أيضاً بوجود سيطرة حقيقية للمعلومات والاتّصالات. ففي البداية، عزّزت تكنولوجيا المعلوماتية وجودها في التلفزيون والراديو ووكالات الإعلام وغيرها، فزادت قوّة من يهيمن على تلك الوسائط. وفي مرحلة تالية، تغيّر الأمر. ومثلاً، أدى بروز القمر الاصطناعي «عرب سات» إلى خلق شبكة تلفزة تسمح بتنوع مصادر المعلومات («الجزيرة»، «العربية»، «الحرة»...) ويمكن أن تستخدمها السلطة والمعارضة والمستقلون. وتعمل التقنيات أيضاً على إلغاء الحدود بين الدول. ويلاحظ أيضاً أن المعلومة يمكن توزيعها في العالم الرقمي بصورة لا نهائيّة من دون أن يضعف ذلك حصة مالكها، فتحوّلت المعلومة إلى صناعة من نوع جديد. ويشمل ذلك الأدوات الإلكترونيّة لصنع المعلومة (ونقلها)، وبرمجيات التعامل مع المعلومة، والمحتوى الرقمي. ومثلاً، تصدّر الولايات المتحدّة محتوى رقمياً مسموعاً - مرئياً تفوق قيمته ما تصدّره من سيّارات. وهناك منحى آخر، وفق دلماس، يتمثّل في دخول مكوّنات رقميّة كالرقاقة الإلكترونيّة، في أنواع الصناعات على اختلافها، إضافة إلى تصاعد ظاهرة الشبكات التي صارت تربط معظم التعاملات والتداولات والاتّصالات ومراكز المعلومات، ومؤسّسات الصناعة، ومراكز الأموال وغيرها. ويشدّد دلماس على أنّ تلك الصورة لا تلغي التفاوتات المتشابكة بين البشر والدول والمجتمعات، لكن يجب العمل بدأب على ألّا تتحوّل التفاوتات هيمنة لقوى بعينها على النظام بأكمله، سواء داخل المجتمع أو بين الدول. وتمارس دول غربيّة أشكالاً من الاحتكار للمعرفة والتقنيات، بدعم من ممارسات واسعة تشمل هجرة الأدمغة، واستقبال الطلاب الأجانب، وتملّك الشركات العملاقة المتوسّع التكنولوجيا وابتكاراتها. ويلفت دلماس إلى أن العالم العربي في موقع المستهلك أكثر من كونه منتجاً. فجوة رقميّة... فجوة اجتماعيّة يتناول المفكّر الفرنسي ظاهرة الانغلاق بوصفها أمراً طبيعيّاً. هناك من يسارع إلى تبني كل جديد في التقنية، لكن هناك من يتريّث، فيما يتخبّط آخرون لإصرارهم على الاستمرار بما اعتادوا عليه. وتبدو تلك الخيارات كأنها تتحرّك على مستوى ثقافي، مع وجود تفاوت في الانفتاح الثقافي. وهناك مجتمعات لديها نظم في التربية والتعليم تزيد قدرة الناس على التأقلم مع الجديد وتقبّله، فيما يغيب ذلك الأمر عن مجتمعات أخرى. ومن تلك النقطة، يدلف دلماس إلى الحديث عن العلاقة بين الفجوتين الرقميّة والاجتماعيّة، بل يرى صلة مباشرة بينهما لأنها تشمل شروطاً تربويّة واقتصاديّة وثقافيّة. إذ توجد الفجوة الرقمية بين الطبقات المتفاوتة في المجتمع الواحد (بل حتى بين فئات كل طبقة)، وهي تتسع وتتقلص وفق ظروف البلدان. وحتى في بلد منسجم نسبيّاً كالولايات المتحدة، تتفاوت نسبة مستخدمي الإنترنت بين الفئات الاجتماعيّة المختلفة، وبصورة كبيرة أحياناً. ويستطرد دلماس ليتحدث عن عاملين يؤدّيان دوراً أساسيّاً في الفجوة الرقميّة، خصوصاً جهود تجسيرها وتجاوزها. الأول هو التثقيف والتوعية والإعداد والتعليم، فيما يتمثّل الثاني في كلفة الاتّصال بشبكة الإنترنت، وتشمل التجهيزات والاشتراكات والتكاليف المتصلة بالاستخدام كعمليات شراء التطبيقات والبرامج. ويعتقد أن المجتمع الدولي له دور أساسي في ذلك الأمر. ويذكّر بما فعله ملك فرنسا عندما اخترع لوي داغير ونايسفور نيبس التصوير الفوتوغرافي في العام 1840. وحينها، اعتبر الملك لوي فيليب التصوير الفوتوغرافي اختراعاً مهماً للبشريّة يتوجب وضعه في متناول الجميع. وأعادت الحكومة الفرنسية شراء براءة ذلك الاختراع، وأعلنت أنه بإمكان البشر كلهم استعماله، فأعقب ذلك انتشار سريع للتصوير الفوتوغرافي. ويلفت دلماس إلى أن مبادرات مشابهة بإمكانها تقليص الفجوة الرقميّة، مشبّهاً ذلك بالأدوية الصنفيّة («جينيريك دراغز» Generic Drugs) التي تحمل مواصفات الأدوية الأصليّة التي تنتجها الشركات العملاقة، لكنها تتميّز بانخفاض سعرها وبكونها في متناول الجميع. في المقابل، يتوجّب أيضاً حماية اختراعات الشركات العملاقة، خصوصاً تلك التي تخصّص أموالاً للبحوث ومساعدة الدول الفقيرة. ورأى دلماس أن ذلك الأمر يمكن تطبيقه على برمجيات الكومبيوتر، خصوصاً تلك التي تضاءل استعمالها فتكون مجانيّة، مع إمكان جعل طريقة صنعها في متناول الجميع. أستاذ ألسنيات الكومبيوتر في الجامعة اللبنانيّة التقنية الرقمية ومصائر المكتبات الوطنية والمناطقية