مضت أعوام والسينما التجارية في مصر خلال مواسم الأعياد راسخة في الكوميديا. يندر أن يخرج عمل فني عن التيار السائد وهو حتى في هذا الخروج يحتمي ببعض الضحك الخفيف كي لا يملّ الناس في صالات العرض، وكأن هدف المُشاهَدة الوحيد هو أن يضحك الناس، وكأن الوعد المُتخفي بالضحك هو السبيل الأوحد لاجتذابهم لشباك التذاكر. مع أن هذه الفرضية التي وضعها مُنتجو السينما، لم يثبت قط نجاحها في مساعدة الصناعة الكبيرة في تجاوز عثراتها، بل على العكس يبدو أنها ساعدت في جمودها أمام هذه العثرات، فإن المنتجين أنفسهم ما زالوا يؤمنون بها ويعملون من أجلها بالطرق القديمة المطروقة حتى صار من الممكن للمُتلقين أن يتوقعوا الإفيهات المضحكة قبل أن ينطقها بطلهم. لعبة محفوظة صارت شروطها مُتفقاً عليها من قبل طرفَيها، لا أحد يخالف منهم التوقعات، لكن هل هذا صحيح؟ فيلم العيد! في فيلم «حملة فريزر» الذي يقدم نفسه باعتباره فيلم العيد، يلعب شيكو وهشام ماجد لعبتهما المُجرَّبة في أفلام سابقة، فكرة فانتازية عن انقلاب جو مصر إلى حالة من البرودة غير المنطقية مع وجود احتمال لأن يكون هذا الطقس العنيف نتيجة لمؤامرة من المافيا الإيطالية على دول عدة من بينها مصر. هكذا فإن الخطوة الأولى كانت اسم الفيلم الذي يسخر من حادثة تاريخية معروفة هي «حملة فريزر» المُنتمية لتاريخ الاحتلال الفرنسي لمصر، وهو أمر تكرر مثلاً في «الحرب العالمية الثالثة» للأبطال أنفسهم. ثم إن الفيلم يواصل السخرية من الجميع، من الممثل المغمور «ممدوح البلوصي» الذي يلعب دوره شيكو هو ممتلئ الجسد الذي يحفظ تراثاً شعبياً جاهلاً عن الحياة ويريد أن يحقق نفسه من دون أن يضطر للعب أدوار الحيوانات كقطة وككلب وكفيل، ومن حفنة الضباط الأغبياء، وعلى رأسهم هشام ماجد وبيومي فؤاد، إذ يخططان لعملية دولية يشتريان فيها طقس مصر «الدافئ» كما يعبران عنه، ثم إنه -أي الفيلم- يصل بالسخرية حتى إلى الأفكار النمطية المشهورة عن حياة الفنانين كغرقهم في الخمر والحشيش وتعدّد علاقاتهم الحميمية، وعن أسماء أعمال لأفلام شهيرة كفيلم «الجزيرة 9» لأحمد السقا. هذه الاستعانة بأدوات فنية من ألعاب سابقة ليست عيباً، خصوصاً أن سامح عبدالعزيز مخرج الفيلم ما زال يريد أن يصنع عملاً كبيراً بمشاهد واعدة على الأقل في البداية، حيث يمكن للكاميرا أن تتجول على كوبري قصر النيل بينما الجليد يسقط وفيروز تغني كأنما القاهرة تحوَّلت بغتة إلى بيروت بلهجة مصرية. تفاصيل يمنحها عبدالعزيز مع ولاء شريف كاتبة السيناريو، عناية خاصة وتحاول أن تحيك عالماً مُتخيَّلاً بالكامل من مصر التي يتجمد فيها الطعام والشراب قبل أن يصلا إلى معدة المصريين. لكن الانقلاب الذي يحدث في الفيلم، وهو انقلاب متوقَع دائماً من الأفلام التجارية الجديدة، يرمي الحكاية بعيداً خارج الملعب إلى إيطاليا البلد الحارّ ويصطنع فيلماً موازياً داخل أحداث الفيلم يحاول من خلاله هشام ماجد واسمه كضابط «سراج الدين بعتذر» أن يجد سبباً لتصوير زعماء المافيا والتجسس عليهم لوقت طويل قبل أن نفهم تماماً لماذا يسعى الضابط سيئ المزاج هذا الى مُلاحقة هؤلاء؟ تسلّل الى الخارج قبل كل هذا وبــعده وحتى في الأثناء، كان يحقّ لجمهور الصالة الذي أتى كي يشاهد عملاً كوميدياً في أول يوم العيد أن يســـأل: أين هي الكومـــيديا المــوعودة؟ وكي لا يســـقط هذا المقال في التعميم سأثبت أني شــاهدتُ الفيلم في اليوم الأول للعيد في قاعة لم يزد عدد مرتاديها عن خمسة عشر شخصاً، بينما يصطفّ آخرون كثيرون في طوابير كي يشاهدوا فيلم أحمد حلمي، في قاعة مجـــاورة. هكذا وبطريقة أكثر مباشرة يبدو أنه كان هناك جمهور يريد أن يشاهد الأفلام، لكن هذا الجمهور كان مع آخر يبدو له مضموناً أكثر في جرعة الضحك التي سيهبها لمُشاهديه مهما اختُلف على أفكاره. وكانت النتيجة تسلل بضعة زبائن من الفيلم قبل أن يصل «حملة فريزر» حتى إلى ذروته. ساعتان من الزمن يحكي فيهما صناع العمل حكايات لا تود أن تُفاجئنا عن محاولة لإنقاذ مصر من هذا الصقيع بالفهلوة والتهريج بين الشخصيات وحتى من طريق التصورات القديمة عن الحلال والحرام. مع ذلك تمرّ أغنيات دافئة لداليدا وفيروز كفواصل للتهدئة قبل أن يواصل الجميع مساعيهم التي تستميت على الإضحاك، وهي مساعٍ لا يمكن التهوين من قيمتها ولا تشويه حُسن نيتها، جعلت في المقابل الشخصيات تبهت باستثناء اثنتين شيكو وهشام ماجد، نسرين أمين تبهت وبيومي فؤاد يلعب الشخصية التي احترف أن يلعبها هي نفسها كل مرّة بلا جهد. حتى الأشرار زعماء المافيا فإنهم الأشرار الكاريكاتوريون الذين يتحكمون في طقس العالم بواسطة ريموت كونترول يخفونه في مقعد أبيهم المُتحرك، كبديل ربما عن لعبة فيديو. يريد فيلم العيد أن يقدم للمُشاهدين ما يريد المشاهدون أن يقدمه لهم، لكن المسافة بين الإرادتين صارت تحتاج كثيراً إلى إعادة نظر.