«ليس لديَّ موضوع في ذهني إلا متعة الكتابة، بوضوح وصدق، والعمل على تصوير الناس العاديين، بطريقة تجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم. إنني مستغرق في بناء رواياتي، حتى أستطيع أن أكون قارئاً لها بالمعنى النهائي». يقدم ألان سيليتو رؤيته لسؤال الكتابة، ورؤيته للعالم في مقدمة روايته «الجنرال» (دار كنعان) التي ترجمها عبدالعزيز عروس، وقدَم لها ممدوح عدوان. رواية تحكي عن حرب بين دولتين، ترسل إحداهما فرقة موسيقية إلى الجبهة للترفيه عن الجنود، لكن يتبدل الموقف العسكري ويجد أعضاء الفرقة أنفسهم وسط الأعداء، الذين احتار قائدهم في شأن ما ينبغي أن يفعله معهم، حتى أمَره قادته بإعدامهم. وقبيل تنفيذ حكم الإعدام؛ حدثت محاورات مطولة بين قائد الحرب وقائد الفرقة الموسيقية، أبرزت الفارق بين الموت والحياة، الدمار والموسيقى. لكن قائد الحرب كان يعتقد أنه على صواب، وأنه يقوم بالدور المنوط به مثله مثل قائد الفرقة الموسيقية. كان يأمل سماع عزفهم، فعرض عليهم أن يعزفوا له وللضباط والجنود الذين معه، على أن يؤجل إعدامهم يومين. في الحوار، يقول الجنرال: «إن الحرب أيضاً فنٌ راق. وإدارة الجبهة مثل قيادة السيمفونية. أنت تعرف أن الآلة الفلانية في اللحظة المناسبة ستنطلق أو ستساهم في العزف، وأنا أعرف أنه في اللحظة المناسبة سينطلق المدفع الفلاني أو الدبابة الفلانية. أنا أيضاً أسمع سيمفونية من هنا وأدير أوركسترا». وفي نهاية الرواية يقول المايسترو للجنرال: «أنت تقود سيمفونية الموت، أما أنا فأقود أوركسترا الحياة». يدين الكاتب ذلك العنف الذي تمارسه الإنسانية ضد بعضها بعضاً، فهل يتمادى الجنرال في موقفه النبيل، ويجعل الفرقة الموسيقية ترحل بعد أن تعزف له الموسيقى: «لو سطعت شمسٌ حمراء دافئة، ولمدة ألف سنة متوالية، فإن ذلك لن يكون كافياً لتعليل هذه الحرب». قرر الجنرال أن يستدعي المايسترو للنقاش؛ وما إن بدأ الحوار حتى اكتشف كل طرف أنه لا يفهم عمل الطرف الآخر. ما جدوى الموسيقى؟ سأل الجنرال. أجاب المايسترو: وما جدوى الحرب؟ أحس الرجلان رغم التباين في وجهات النظر بتشابه في ما بينهما، فكل منهما يقود مجموعة من الرجال ويتحكم في أدائهم ويعطي الأوامر لهم. شعر الاثنان للحظة أنهما التقيا من قبل، كما أن كلاً منهما لمس وراء مظهر الآخر مشتركات لا يفهم ماهيتها. كان الفنان قد وجد نفسه في مواجهة أخطار لم يعهدها من قبل، في مواجهة قوة عقيمة جاهلة وجدت نفسها في غفلة من الزمن قادرة على تدمير شيء عجزت عن فهمه وإدراكه. كما أن الجنرال وجد نفسه في مواجهة نفسه، في مواجهة الفن والحياة، في مواجهة الموسيقى، فبدأ يتساءل عن جدوى الحرب، ولماذا هو هنا في هذه اللحظة؟ وماذا لو أنه فتح لهذه الفرقة المسالمة العاشقة للحياة مساراً للهرب؟ هل يستطيع هو الآخر أن يهرب وينجو بروحه؟ كذلك كان الموسيقي يتأمل الحرب من حوله، ثم يخلص إلى أنه لم تكن هناك صراعات ومنازعات، فقط قوة عمياء انطلقت من عقالها تدمر في شكل عشوائي كل من يقف في طريقها. يواصل الكاتب محاوراته بيين الرجلين: طرح الجنرال وجهة نظره حول الحرب قائلاً: «يمكنك أن تضع كل نظريات العالم وأفكاره داخل الأرض وتنسفها بالديناميت، غير أن شيئاً واحداً لا يصيبه الدمار، ألا وهو «سلطة القوة» وسيطرة أمة على أخرى، قوة وسلطان أمة بسيطة يأكل فيها الكلب أخاه تجابه أمة يقاتل كل من فيها في سبيل ما يسمونه الحرية. إن بلادي تحارب بكل شراسة وجنون لتحطيم بلادك واحتلالها، كما أن بلادك تستنزف دماءها عن آخرها سعياً لتحطيم بلادي. أنتم تسمونها حرية ونحن نسميها بقاءً. إنني كجندي لا أهتم كثيراً بالفارق بين هاتين المسألتين. إنني أسمي الحرب فناً ليس إلا. ردَّ الفنان قائلاً: «أنا لا أؤمن بالحرب بصرف النظر عن المشاكل التي قد تحلها. فالمشاكل التي قد تحلها الحرب بالنسبة لي ليست مشاكل مشروعة بأية حال». ترصد الرواية قسوة الحروب، وتعمد الكاتب أن لا يعطي تفاصيل عن جبهة القتال والجهات المتصارعة، ما يجعل أحداثها قد تنطبق على أي حرب. ينجح الحوار في أن يُحدث تغيراً ما في نفس الجنرال الذي وجد نفسه وجهاً لوجه أمام الفن ويرغمه على نبش ذاكرته والعودة بها إلى سنوات طفولته وسماعه للموسيقى وشغفه بها، فيطلب من الفرقة أن تعزف ألحاناً له ولجنوده. الأمر الذي تمانعه الفرقة في البداية ثم توافق على الأداء الذي كان من القوة ما أزال ما تبقى من الجدران بين الجنرال وأسراه. ينجح الحدث في إيقاظ روح الجنرال وتسرب الشك إليه في شأن جدوى الحروب، ولا إنسانية الحياة التي يحياها، حتى يصل الأمر به إلى عصيان أوامر قيادته. تكشف الرواية تعقيدات النفس البشرية والصراعات التي تجلبها الحروب وهوان الروح التي ترتضي لنفسها أن تكون آلة من آلات الدمار والموت، ولكنها تكشف أيضاً قابلية التغيير حتى لدى من احترف القتال وعايش صناعة الموت. ألان سيليتو (1928- 2010) شاعر وروائي وكاتب مسرحي بريطاني تميَّز بانحيازه إلى الطبقة العاملة، وبرز في خمسينات القرن الماضي ضمن مجموعة من الروائيين والكتّاب المسرحيين أطلقت على نفسها اسم «الشباب الغاضب». ولد في بيئة فقيرة جداً حتى أن أمه وضعته في مدرسة للمعاقين عقلياً لأنها سمعت أنهم يقدمون فيها السندويشات والحساء مجاناً. ترك أربعين مؤلفاً بين قصة ورواية ومسرح وشعر. أهم أعماله «الجنرال»، «موت وليم بوسترز»، «كنغ جيمس»، «مساء السبت صباح الأحد»، «الحصار الثلجي»، «عزلة عدَّاء المسافات الطويلة»، كما كتب سيرته الذاتية تحت عنوان «الحياة في درع».