بعد خروجه من فلسطين المحتلة، كان محمود درويش يرفض بعناد قراءة قصيدته «بطاقة هوية» في أمسياته الشعرية أمام جمهور عربي متعطش لسماع صرخة «سجّل أنا عربي». وانطلق درويش في رفضه هذا من فكرتين: الأولى، أنه لا معنى للصراخ بأنه عربي في البلاد العربية، فالانتماء هناك، في داخل الداخل الفلسطيني، يحمل معنى التحدي والمقاومة، أمّا الانتماء هنا فهو بديهي ولا يحتاج إلى تأكيد؛ الثانية، أنه لا يريد أن يبقى أسير بداياته وطفولته الشعرية، فهو ليس مجرد صوت فلسطيني، بل شاعر يطوّر أدواته الفنية ورؤيته الشعرية أيضاً، فالشعر ليس صدى لنفسه، وإنما هو بحث دائم من أجل اكتناه المعاني العميقة للتجربة الإنسانية. كان درويش يعلم، في قرارة نفسه، أن موقفه ليس مجرد رفض لرغبات الجمهور، بل هو أيضاً وسيلته لغواية قرّائه. ولعل درويش هو الوحيد بين ثُلاثي شعر المقاومة الذي ضمه مع سميح القاسم وتوفيق زياد، الذي أتقن فن الغواية، فصوّر نفسه مغنياً، واستدرج الكلمات إلى رؤيته المائية، راسماً شفافية الشعر الذي يتلألأ بالمعاني، خلف ستار من مطر خريفي ناعم توشحه العصافير الزرقاء. ربما تكون الغواية أحد المداخل لقراءة شعر درويش الذي عرف كيف يروي حكاية شعبه، بنصوص مصنوعة من التوتر بين الكلام والصمت، وبين الإيحاء والتأويل، وهذه مسألة تستحق بحثاً خاصاً بها. سأحاول ألاّ أسقط في شراك الغواية الدرويشية، بل سأنتقل إلى قراءة دلالات زمن الأوغاد الذين لم يحتملوا طفولة الشاعر، وأعلنوا حرباً على كلمات كتبها شاب في الثالثة والعشرين من عمره، كي يعبِّر عن غيظه من المحتل الذي سرق طفولته ودمّر قريته وحطّم حياته. لا تكمن غواية هذه القصيدة في بساطتها ومباشرتها فقط، أو في قدرتها على تحويل همسات الضحايا إلى صرخة، بل أيضاً في لعبة الترجمة من العبرية إلى العربية وبالعكس. الشاعر الشاب يقف أمام محقق إسرائيلي، ليجيب عن أسئلته. من المنطقي أن يدور الحوار باللغة العبرية، لكن الشاعر حذف الأسئلة العبرية، وحوّل إجابته إلى محضر اتهام. الشاعر يعرف العبرية لكنه يتجاهلها محوِّلاً التحقيق إلى تعبير بسيط ومباشر عن آلام الضحية. وهو عكس الخواجا الإسرائيلي الذي يدّعي معرفة العربية، كما جاء في الدعاية الانتخابية للأستوني أفيغدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، والتي جاء فيها أن ليبرمان وحده يعرف العربية، لتشير لا إلى اللغة، وإنما إلى ادعاء هذا العنصري أنه يعرف كيف يكلم العرب بلغتهم، أي بلغة القوة. المسألة ليست لغوية، فحين حضرت المسألة اللغوية في شكل جدي، قام جليلي آخر بالتقاطها معطياً درساً في العبرية التي يحاول الصهيونيون محو صلتها بجذورها المرتبطة بالعربية، عبر رائعة أنطون شمّاس «أرابسك». الهوية الصريحة الشاعر الشاب الذي كان يتلمّس لغته استخدم الصفة التي أطلقها الصهيونيون على فلسطينيي الداخل، فهم «عرب أرض إسرائيل»، وكان هذا الاسم جزءاً من مشروع محو هويتهم الفلسطينية، فصار فلسطينيو الدولة العبرية هم العرب الوحيدون في العالم العربي الذين يتسمّون باسمهم العربي. لكن درويش خرج من المصيدة اللغوية الإسرائيلية في ديوانه الثاني «عاشق من فلسطين»، عندما أعلن هويته الفلسطينية في شكل صريح، لينصرف مع أقرانه الشعراء والأدباء لصوغ المعنى الإنساني لهذه الهوية. حين رفض محمود درويش في أمسيته الأولى في بيروت التي أقيمت في سنة 1972 - إذا لم تخنّي الذاكرة - قراءة قصيدته «بطاقة هوية»، أحسست كغيري من الجمهور الكثير الذي تدفق إلى القاعة للاستماع إلى «شاعر الأرض المحتلة» بالخيبة، لكنني سرعان ما تبنّيت فرضية الشاعر، واقتنعت معه بسذاجة فعل أن تقول في بيروت «سجّل أنا عربي»، وصرت في تتبّعي لمختلف مراحله الشعرية، أبحث عن الشعر الصافي الذي حوّل هذا الشاعر إلى صوت للألم الإنساني، ومحاور لمثنى امرئ القيس، وأمير للكلام، وفق تعريف الخليل بن أحمد الفراهيدي للشاعر. غير أن الزمن له رأي آخر. صحيح أن التاريخ لا يعيد نفسه إلاّ كمسخرة وفق ماركس، لكن المسخرة تحتاج إلى أغبياء كي تكون ممكنة. ويبدو أننا نعيش في زمن يتسيّد فيه الغباء الممزوج بالوحشية العنصرية والدينية. عندما أثارت قصيدة درويش «عابرون في كلام عابر» الهلع في إسرائيل خلال الانتفاضة الأولى، وجعلت رئيس الحكومة الإسرائيلية يفقد صوابه في إحدى جلسات الكنيست، كان المشهد لامعقولاً؛ فـ «جيش الدفاع» الذي كان يكسر عظام الأطفال الفلسطينيين، وقف عاجزاً أمام الحجر الفلسطيني الذي صار كلمة، والكلمة صارت قصيدة تأمر المحتل بأن يمضي: «أيها المارون بين الكلمات العابره/ احملوا أسماءكم وانصرفوا / واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا / وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكره / وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا / أنكم لن تعرفوا / كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء». أهمية القصيدة تأتي من السطر الأخير في مقطعها الأول. فالحجر يبني سقف السماء وليس العكس، والفلسطينيون والفلسطينيات يناضلون لأنهم على موعد مع أرضهم، وليست قضيتهم نتاج وعد أسطوري أو سماوي، فهم يصنعون موعدهم ويبنون سماءهم. كشفت هذه القصيدة الهشاشة الأيديولوجية الصهيونية، فالرعب الإسرائيلي من الشاعر كان لأن الفتى القادم من البروة، لم يكتفِ بالوقوف على أطلال قريته المدمرة والمهجرة، والتي بُني على أنقاضها كيبوتس يازور وموشاف أحيدود، وإنما استنطق الحجارة كما في قصيدته: «حجر كنعاني في البحر الميت»، حيث صار الحجر حجلاً: «لا باب يفتحه أمامي البحرُ / قلت: قصيدتي / حجرٌ يطير إلى أبي حجلاً، أتعلمُ يا أبي / ما حلّ بي». حجر الحاضر يشهد على الجريمة التي حاول الإسرائيليون تغطيتها بالأشجار، والتلاعب بصورة الضحية اليهودية من أجل تحويلها إلى جلاّد يتظاهر بالبكاء وهو يقتل ضحيته. على رغم لامعقولية ردّ الفعل الإسرائيلي على قصيدة «عابرون» التي قامت المخرجة سيمون بيتون بتوثيقها في كتاب، فإن مشهد ثمانينات القرن الماضي لا يقارن بالمشهد الإسرائيلي الحالي وردود الفعل الهستيرية التي أثارتها قصيدة «بطاقة هوية» حين بثتها إذاعة الجيش الإسرائيلي في برنامج جامعي خُصصت إحدى حلقاته لدرويش. رد الفعل الذي تصدّره وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان بالاشتراك مع وزيرة الثقافة والرياضة ميري ريغيف، يجعل المراقب يشكك في عقله. هل كان درويش مخطئاً في رفضه قراءة قصيدته أمام الجمهور العربي في سبعينات القرن الماضي؟ وهل كان تؤاطؤنا معه آنذاك تعبيراً عن أمنية بأن زمن النكبة انتهى مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكنا بذلك نخدع أنفسنا ونرفض أن نرى؟ أم إن فهم هذه المسألة يحتاج إلى قراءة جديدة لمعنى النكبة، الذي كان شارون أول مَن التقطه حين اعتبر أن معركة سحق الانتفاضة الثانية هي استكمال منطقي لـ «حرب الاستقلال» بالعبرية، أي حرب النكبة بالعربية؟ شارون وخطورة القصيدة سبق أن التقط أريئيل شارون، الذي يعني اسمه الأول (أريئيل) «أسد الله»، خطورة شعر درويش حين صرّح بعيد صدور ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» بأنه يحسد الفلسطينيين على علاقتهم بالأرض، كما عبّر عنها درويش، ويومها أجابه الشاعر بأن في وسعه الشفاء من حسده من الفلسطينيين بأن ينسحب من أرضهم. «الأسد» الإسرائيلي، سفّاح شاتيلا وصبرا، الذي قاد الليكود ثم انقلب عليه ليؤسس حزب كاديما، ترك وراءه «أسود الشبح» من مريدي مغني الراب الإسرائيلي يوان إلياسي المعروف باسم الشبح، والذين يعبّرون اليوم عن الثقافة الإسرائيلية كما تهواها وزيرة الثقافة الليكودية. وبالمناسبة فإن كلمة «شبيّح» هي على وزن فَعّيل وهو وزن مبالغة لـ «شبّح»، وهي كلمة عامية بدأ استخدامها في سياق الحرب الأهلية اللبنانية، ثم جرى تعميمها عبر إضفاء صفات الهول عليها خلال الثورة السورية. لكن قبل الوصول إلى ظاهرة الشبح وأسوده الصغار وشبّيحته أريد التوقف عند الاحتفال الذي استقبل به الأوغاد بث قصيدة درويش. والحقيقة أنني قمت باستخدام عبارة الأوغاد لأنها تضم مجموعة من الصفات الملائمة لوصف الوزيرين الإسرائيليين ومن لفّ لفهما، اللذين قادا رد الفعل على القصيدة الدرويشية. نستطيع أن نطلق عليهم صفات كثيرة، كالجهل والغباء والضعة والعنصرية، لكني وجدت كلمة «أوغاد» هي الأكثر ملاءمة لأنها تضمّ هذه الصفات كافة. جاء في «مقاييس اللغة» لابن فارس: «الواو والغين والدال كلمة تدل على دناءة.» أمّا ابن منظور فيقدّم في «لسان العرب» تعريفاً جامعاً لمعنى الكلمة: «الوغد: الخفيف الأحمق الضعيف العقل الرذل الدنيء، ويقال فلان من أوغاد القوم أي من أذلاّئهم وضعفائهم.» عدت إلى القواميس كي أؤكد أنني لا أستخدم كلمة «أوغاد» كشتيمة، وإنما كمحاولة للإحاطة بدلالات زمن الأوغاد الذين يسيطرون اليوم على المشهد السياسي الإسرائيلي. ماذا حدث؟ ولماذا هذه الزوبعة الإسرائيلية في شأن قصيدة؟ يوم الثلثاء 19 تموز (يوليو) بثت إذاعة الجيش الإسرائيلي حواراً مع الطيّب غنايم في إطار برنامج «الجامعة المُذاعة»، واختُتم الحوار بقراءة الترجمة العبرية لقصيدة «بطاقة هوية». القصيدة تُرجمت إلى العبرية من زمان، ولا جديد هنا. لكن ردّ الفعل الإسرائيلي من الوزيرين، وما كتبته صحيفة «إسرائيل اليوم»، المقرّبة من رئيس الحكومة الإسرائيلية، هما الجديد الذي يفضح القديم كله، ويطرح أسئلة عميقة عن المنعطف العنصري الذي دخلته إسرائيل، وعن هاوية الغباء الذي انحدر إليها المستوى السياسي برمّته. بدأت ردود الفعل الإسرائيلية بوزيرة الثقافة والرياضة ميري ريغيف التي قالت إنها شعرت بالخوف عند سماعها القصيدة! وشنّت هجوماً على إذاعة الجيش الإسرائيلي، فقام ليبرمان بتلقّف المسألة مشبّهاً شاعر «شتاء ريتا الطويل»، بأدولف هتلر. قارن وزير الخارجية الحصيف بين بثّ شعر درويش على إذاعة الجيش الإسرائيلي، وبين تمجيد كتاب هتلر «كفاحي.» أمّا صحيفة «إسرائيل اليوم» فكانت أكثر وضوحاً من الوزير، إذ كتبت: «بعد بثّ البرنامج عن درويش بات يمكن بثّ برامج لجنود الجيش عن كتاب «كفاحي» لهتلر، باعتبار هذا الأخير شخصية بلورت تاريخ القرن العشرين، ولكليهما هدف مشابه هو القضاء على اليهود». ماذا نسمّي هذا الهراء؟ لا يمكن الدخول في محاججة مع هذا الكلام الذي ينضح جهلاً وسفالة، والذي يشير إلى التحول الكبير في إسرائيل الذي يقوم اليمين القومي الديني بنزع أقنعتها واحداً تلو الآخر، وصولاً إلى المطابقة الكاملة بين الأقوال والأفعال، أي إلى القوة العارية التي تقفل لغتها على ذاتها، وتقود إلى نوع من أنواع الفاشية. فالفاشية لم تستخدم يوماً لغة الحقوق الإنسانية كي تبني جسوراً من التواصل، وإنما كانت لغتها الأساسية هي النار، والرطانة التي لا تخاطب إلاّ نفسها. اليمين الإسرائيلي الذي استولى على السلطة، ويسعى للاستيلاء الكامل على المجتمع، يأخذ إسرائيل إلى هذه اللغة المقفلة، ويقوم بتدمير الثقافة الإسرائيلية التي حاولت أن تلعب لعبة الالتباس كي تحجب الجريمة، وتضعها في إطار الصراع بين «حقّين مطلقين» وفق الروائي عاموس عوز. افتراض صراع «الحقّين المطلقين»، يسعى لمساواة الجلاّد بالضحية، وليس سوى لعبة لغوية تُخفي بدلاً من أن تكشف، لكن هذا الافتراض يحاول مداراة الخجل ممّا حدث بتلاعب لغوي لا معنى له سوى أنه سعي لشحن الوحشية ببعد إنساني لا علاقة لها به. ولم يكن وصول نخبة مثقفي اليسار الإسرائيلي إلى هذا الافتراض ممكناً لولا قيام المؤرخين الإسرائيليين الجدد بكشف جزء من مُخَبَّأ النكبة الذي تحصّن خلف عبارة غولدا مئير الشهيرة عن عدم وجود الشعب الفلسطيني. حاولت ثقافة التنعّج الإسرائيلية الاختباء خلف تعابير إنسانوية كي تنجو بفعلتها في سنة 1948، لكن التحولات الكبرى التي يشهدها المجتمع الإسرائيلي حطّمت هذه اللغة. وبدلاً من الغمغمة الإسرائيلية التي أتقنها التيار العمّالي الذي أسّس دولة الاستعمار الاستيطاني في سنة 1948، جاءتنا عضو الكنيست عن حزب الليكود السيدة عنات بركو لتتجاوز غولدا مئير بأشواط. فالنائبة الإسرائيلية التي كانت ضابطاً في الجيش قبل دخولها البرلمان، اكتشفت ما لم تستطع غولدا مئير تخيّله، فأعلنت من على منبر الكنيست في التاسع من تموز 2016 أن «لا وجود للأمة الفلسطينية، لأن حرف الـ P لا وجود له في العربية»! ومع اعترافنا بهذا النقص الذي حاول أستاذنا أحمد فارس الشدياق سدّه عبر وضع ثلاث نقاط تحت حرف الباء، فإننا نتمنى أن تكون السيدة عنات، وهي من أبوين عراقيين، لا تزال قادرة على لفظ حرف العين في اسمها، لا أن تلفظ العين ألفاً، مثلما هو شائع في العبرية التي طبعها الأشكناز بلكنتهم الأوروبية، وابتلعوا بعض حروفها كالعين والحاء. أمّا ما علاقة حرف الـ P بوجود الشعب الفلسطيني، فهذا والله سرّ يتجاوز نسبة البلد إلى اسم الفلسطينيين القدماء، ويحوّل وجود الشعوب والأمم إلى مزاح ثقيل! لا ألوم السيدة بركو على جهلها، فهذا جزء من عنصرية متأصلة في الصهيونية منذ نشأتها، لكنني ألاحظ اقتران هذه الموجة بالجهل، وهذا من طبيعة الأشياء، لأن أحد العناصر التكوينية في الفكر العنصري هو الجهل والتجهيل. «حذار حذار من جوعي ومن غضبي» لعل أبرز مثالين يعبِّران بعمق عن المناخ الإسرائيلي السائد هما إليور عازاريا ويوان إلياسي: الأول قاتل، والثاني محرّض على القتل والكراهية؛ الأول جندي مهووس بقتل الفلسطينيين، والثاني يعمل مغنياً للراب وشعروراً (الشعرور اسم أطلقه النقّاد العرب على مَن يدّعي الشعر ولا يصل حتى إلى مرتبة شويعر)؛ الأول تحوّل إلى بطل قومي، والثاني صار اليوم عضواً في حزب الليكود، وليس من المستعبد أن يدخل إلى الكنيست ويصير وزيراً! إليور عازاريا هو التجسيد الفعلي للأيديولوجيا السياسية المهيمنة. لقد قام هذا الجندي الذي يقيم في الرملة بالإجهاز على الفلسطيني عبد الفتاح الشريف (21 سنة) الذي كان ملقى على الأرض نتيجة إصابته برصاص الجنود الإسرائيليين في تل الرميدة - الخليل في 24 / 3 / 2016. وعندما فضح المصوّر الفلسطيني عماد أبو شمسية جريمته في فيلم قصير، تحوّل هذا الجندي القاتل من فضيحة أخلاقية إلى رمز وطني، وتحوّلت محاكمته إلى مناسبة وطنية أعلن فيها اليمين القومي الديني أن الجريمة هي فخره القومي. ليبرمان زار عازاريا في قاعة المحكمة معلناً تضامنه معه، ووزيرة الثقافة قامت باحتضان القاتل أمام القضاة علناً، أمّا نتانياهو فاتصل بوالد القاتل متضامناً... اليمين على حق، فتاريخ «طهارة» سلاح الجيش الإسرائيلي جزء من عالم الأكاذيب التي بنت عليها الصهيونية مقتربها الأخلاقي كي تُلبس القاتل ثوب الضحية. ما قام به عازاريا شائع في الجيش الذي تباهـــى أحد قادته بأنه سيجعل من جميع شبان مخيم الدهيـــشة معوّقين. ولم يكن لجريمة عازاريا أن تتخذ هذا الحجم لولا كاميرا الشاب الفلسطيني الذي هدد المستوطنون بقتله، ولولا أن البنية السياسية والعسكرية للدولة العبرية تعيش مرحلة انتقالية حادة في سياق استيلاء اليمين عليها، وما يثيره ذلك من تداعيات على المستويات الثقافية والعسكرية والقضائية. اللافت في الضجة الإسرائيلية والنقاش الصاخب حول عازاريا هو اختفاء اسم الضحية. فعندما تُذكر جريمة عازاريا يُشار إلى القتيل بصفته إرهابياً فلسطينياً لا اسم له. إنه مجرد قتيل آخر، ولا ضرورة للإشارة إلى الاسم: عبد الفتاح الشريف، أو إلى العمر: 21 سنة. تُرك الشاب مرمياً ينزف إلى أن ظهر عازاريا وأجهز عليه. ومن ثم تُركت جثة الشهيد مكشوفة في الطريق، كأنه بطل ملحمي قرر أن يدخل في إحدى قصائد محمود درويش: «قالت امرأة للسحابة: غطّي حبيبي / فإن ثيابي مبللة بدمه». والغريب أن اسم عبد الفتاح الشريف دخل أيضاً في الاسم الفلسطيني كورقة في أغصان شجرة لا تتوقف عن النمو، وعليها نكتب أسماء الشهداء وننساها. فقد تراكمت الأسماء فوق الأسماء، بحيث اختلطت وتكاد تتلاشى في الذاكرة. مَن نذكر ومَن ننسى، والجميع في حصار الشهداء، كما كتب درويش في «حالة حصار»: الشهيدةُ بنتُ الشهيدة بنتُ الشهيد / وأختُ الشهيد وأختُ الشهيدة كِنّة / أمِّ الشهيد حفيدةُ جدِّ شهيد / وجارةُ عمِّ الشهيد (إلخ...إلخ...) / ولا شيء يحدثُ في العالم المتمدّنِ / فالزمن البربريُّ انتهى / والضحيَّة مجهولةُ الاسم، عاديةٌ / والضحية مثل الحقيقة... نسبيةٌ / (إلخ...إلخ...). القاتل الذي صار «بطلاً»، هو الوجه الآخر للشعرور الذي صار نجماً ثقافياً إسرائيلياً. الأول كان عمله مجرد تنفيذ لخطاب السياسيين، فعندما يقول زعيم «البيت اليهودي» ووزير التعليم نفتالي بينت «يجب قتل الإرهابيين لا تحريرهم»، وعندما يصرّح وزير الأمن العام غيلاد أردان: «على كل إرهابي أن يعلم أنه لن يبقى حياً إذا نفذ مخططه للقيام بهجوم»، يصير عازاريا أداة لتنفيذ سياسة محددة وليس مجرماً، وخصوصاً أن الأوغاد الذين هاجموا شاعر فلسطين الذي يفيض شعره أبعاداً إنسانية، جعلوا من الشعرور ومغني الراب يوان إلياسي، نموذجاً للثقافة والعمل السياسي. فإلياسي الذي ولد في صفد دخل عالم الفن من باب الراب والشعر، وعلى رغم نجاح فرقة «ملك إسرائيل» التي ضمته مع كوبي شمعوني، إذ وصلت مبيعات ألبومهما «الضوء والظلّ» إلى 100.000 نسخة، فإنه صنع مجده في صفحته في «الفايسبوك» التي تملك 226.310 متابعين. صفحة إلياسي وفق داني فليك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بن - غوريون في النقب، تعبّر «ببلاغة أكثر عنفاً عن الأشياء التي تُعتبر التيار الرئيسي في السياسة الإسرائيلية.» أمّا إذا بحثنا عن هذه الأشياء فإننا سنجد نصاً يدعو إلى أن تهرع فرق إسعاف إلى مكان الطعن بالسكاكين، فتقطع أعضاء الإرهابيين وتعطيها للمركز الوطني لزراعة الأعضاء، كما يقترح هذا النص إخصاء الإرهابيين القتلى لوضع حد لأحلامهم بالحصول على 72 حورية. هذا البطل العنصري الذي أُطلق على أتباعه اسم «أسود الشبح»، أعلن أن عدوه الرئيسي هو اليسار الجذري. وعلى رغم نفور كثير من اليمينيين من لغته الفجّة، فإنه صار مؤخراً عضواً في حزب الليكود، وليس مستغرباً أن يصير عضو كنيست، فأورين هازان، أحد قادة الليكود، قال إن الرجل يساوي خمسة أعضاء في الكنيست، ووعد إلياسي بأن يحوّل أسوده إلى «حرس لليكود». الأوغاد الذين ينحدر بهم المجتمع السياسي الإسرائيلي إلى حضيضه المنتظر، أعادوا الاعتبار إلى قصيدة كان شاعرها يدعو إلى تجاوزها. وأصيبوا بالرعب من هذا المقطع في قصيدة «بطاقة هوية» وفق ميري ريغيف، وزيرة الثقافة: «ولكني إذا ما جعت / آكل لحم مغتصبي / حذار حذار من جوعي / ومن غضبي». غير أن الوزيرة الحصيفة لم تقرأ، على ما يبدو، بداية المقطع الذي استلّت منه خوفها: «سجّل برأس الصفحة الأولى / أنا لا أكره الناس / ولا أسطو على أحدِ». سواء قُرئ المقطع السابق أم لم يُقرأ، فإن الخوف هو من لفظة مغتصبي، فهم يعلمون أنهم مغتصِبون، ويعلمون أيضاً أنهم يواصلون الاغتصاب، ويريدون إجبار ضحيتهم على نكران وجودها والوقوع في حب قاتلها! وفي النهاية أتساءل هل كان الشاعر مخطئاً عندما رفض قراءة قصيدته، أم إن التاريخ هو المخطئ لأنه أعادنا اليوم إلى أول النكبة، كأن هذه النكبة ترفض أن تتوقف، وثمة مَن يجددها ويجعلها حاضراً ينتقم من الحاضر؟ هل على الشاعر أن يعتذر من التاريخ؟ أم على التاريخ أن يعتذر من الشعر؟ * ينشر هذا المقال في العدد 108 (خريف 2016) من «مجلة الدراسات الفلسطينية»، الذي يصدر مطلع الشهر المقبل.