إنك ما أن تتحدث عن العدل إلا ويقفز إلى الإدراك سِيَرُ العادلين وتبدأ الذاكرة التاريخية باستعادة واسترجاع تلك المواقف سواء ما كان منها للخلفاء أو الأمراء أو لسائر خلق الله ممن خلّد نفسه في صحائف العدل والعادلين وهذه إحدى إشكاليات الوعي الجمعي التي تأخذ الناس في الغالب إلى حيث الذاكرة والفعل الخارجي أي من خلال المنظور التاريخي والذي هو خارج الإنسان نفسه بطبيعة الحال؛ وتتجاوز الفعل الداخلي أي فكر الإنسان الداخلي والخاص به من حيث مجموع نواياه وأفكاره ومشاعره وتصرفاته وما نسعى إليه أن نوجه مزيدا من الانتباه إلى وعينا الداخلي ونقف عند أحوالنا الخاصة وقصصنا الداخلية قبل أحوال الآخرين وقصصهم الخارجية, ذلك أن الداخل هو الأصل والخارج إنما هو انعكاس له. وعليه فهل جاء في إدارك الواحد منا بأن من المطلوب منه في هذه التجربة الحياتية التي نحن شاهدين فيها ومتفاعلين معها عدلنا نحن مع أنفسنا/أنفسنا أولا؛ وقبل كل عدل مع أي أحد, نعم هو كذلك بالضبط بحيث أكون عادلا في نواياي وعادلا في أفكاري وعادلا في مشاعري وعادلا في جسدي وعادلا في فعلي وعادلا في ردات فعلي وهلمّ جرا. ثم إن آية التحمل والواردة في سورة الأحزاب هي مليئة بقدسية التحذير وقطعية الدلالة وبشكل مباشر لا مواربة فيه {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} سورة الأحزاب (72)، ومن هنا يتحرك التحدي الكبير لنا نحن متمثلا في هذا السؤال: كيف نكون عادلين مع أنفسنا؟ الأمر الذي من لوازمه البعد كل البعد عن الظلم وما أقصده بالنفس هو: مجموع نوايانا وأفكارنا ومشاعرنا وبوجه أو بآخر كذلك مجموع تصرفاتنا. نعم إن كون الإنسان (ظَلُومًا) لا تعني الاستسلام والاحتجاج بها بل لا بد أن تكون محفزة لنا لمزيد من العدل والوعي بالعدل وإدراك أهميتة والانضباط والانتظام فيه ومسايسة النفس عليه. إنك عندما لا تستجيب لدواعي فكرة جنسية محرمة وممكنة في نفس الوقت فأنت عادل نعم إنك بهذا التصرف عادل إذ إنك تدرك أنك كيان وروح سماوية لك معنى أكبر بكبير جدا من تلك الممارسات المحرمات, وعندما لا تستجيب لمشاعر كراهية أو حقد فأنت عادل, وعندما لا تمارس في جسدك أنواع الإيذاءات كالتدخين مثلا فأنت عادل, وحتى في أشيائك كسيارتك وبقية أجهزتك التي تستخدمها يمكن أن تكون عادلا أو ظالما وعلى ذلك فقس في بقية الشؤون والأمور. إننا عندما نتحدث عن العدل فإننا نتحدث عن إحدى قيم السماء ففي الحديث القدسي عن ربنا سبحانه وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا...) وعكس الظلم هو العدل. وإذا ما اتجهنا إلى حيث كتاب الله المبارك نجد الخطاب القرآني واللغة الإلهية رقيقة وواضحة ومباشرة فقال سبحانه في سورة النحل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } سورة النحل (90)، وإذا قمنا بتفكيك وتحليل هذا النص لنفهم التضيمنات المنطوية تحته سنجد النموذجلمعرفي الإدراكي الكامن فيه ولأجل ذلك سأقوم بتقسيمه إلى وحدات متقابلة تُشكل عناصر الآية الأولية لنعتبر ونكون من الذاكرين؛ ففي الشق الأول من الآية نجد التالي: (الله- أمر- عدل- إحسان- إيتاء- ذي قربى) وفي الشق الثاني نجد التالي: (نهي- فحشاء- منكر -بغي- عظة- تذكر) ففي الشق الأول والثاني المصدر للأمر هو الله, وفي الأول نلاحظ التعبير عن قيم السماء الثلاثية وهي؛ (العدل والإحسان وإيتاء الأقارب) وفي الثاني كذلك قيم أو صفات سلبية ممقوتة في السماء وهي ثلاثية أيضا؛ (الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ) وينتهي الأمر في الآية ببيان أن القضية هي وعظ لكم لعلكم تتذكرون تلك الثلاثيات. ولكي نفهم النص بشكل متكامل وندرك علاقة الثلاثيات السابقة ببعضها البعض ثم علاقتها بنا نحن بني الإنسان سأقوم بعملية الربط التالية: القيم الإيجابية والقيم/الصفات السلبية مرتبطان بالإنسان وتفعيل أيا منهما هو اختيار مرتبط بالفعل الإنساني وكل ذلك مرتبط بالتذكير وإلا ففي فطرة الإنسان إدراك لتلك القيم إيجابيها وسلبيها وإذا أحببنا أن نرتفع بعملية الربط إلى المستوى المعرفي/الأنطولوجي ورؤية الكون سنستنتج أن كل الثلاثيات المذكورة في الآية إنما يتحدثان عن علاقة الإنسان بنفسه أولا ثم علاقته بالآخرين وكلا العلاقتين هي علاقة استخلاف واستئمان, ومن المؤكد بأن عمارة الكون لن تكون كما يجب أن تكون عليه إلا بمزيد من العدل وتحقيقه سلوكا ممارسا فيه؛ وعليه فهلّا مكنّا لقيم السماء في أنفسنا بشكل أكثر وأكبر؟ وهلّا قللنا من القيم والصفات السلبية؟ وإذا عدنا إلى فكرة المقال (العدل) فبما أن هناك فعلا إنسانيا لاختيار القيم التي يمكن أن يتمثلها الواحد منا فليكن من بينها وفي مقدمتها العدل لأنك إذا عدلت أحسنت, وإذا مُكنت وتمكنت من الإحسان يمكنك حينها أن تعطي الإنسانية بأشخاصها وأشيائها كل شيء جميل وخصوصا ذوي القربى لأن العلاقة هي من النوع المتين المدرك للاستخلاف والاستئمان والعِمارة. وما أحب أن أؤكد عليه أنك ما لم تكن عادلا/منصفًا مع نفسك من خلال مجموع (نواياك وأفكارك ومشاعرك وتصرفاتك) فلن تكون عادلا مع الآخرين فأسس للعدل والإنصاف في الداخل يكن يسيرا عليك ممارسته في الخارج وإن فشلت في العدل والإنصاف في تعاملاتك مع أشخاص هذا الكون وأشيائه فهذا مؤشر على غياب العدل والإنصاف في داخلك فانتبه وعُد إلى داخلك. وهنا ثمة تنبيه على أنك أنت أيها الإسان (أنت وأنا) إنما نحن مساهمين وبشكل كبير في صناعة واقعنا وأقدارنا والمتمثل في مواقف وأحداث حياتنا قال الله تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (10) سورة الحج. وأيضا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وأيضا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} سورة آل عمران (165)، فلنقدم العدل والإنصاف منطلقين مرة أخرى من أنفسنا مجموع (نوايانا وأفكارنا ومشاعرنا وتصرفاتنا) لتتكاثر لحظاتنا المباركة وتستديم محبة الخالق العادل لنا ونسير في طريق من النور ممتد لا نهاية له ولا حد. وفي المقام الأول تذكروا أن العدل اسم من أسماء الله الحسنى فلنتشبه بعدله وإنصافه غاية التشبه فهو خير لنا في الدنيا والآخرة، ومن المفارقات الجميلة أن الله سبحانه وتعالى قد نزه نفسه عن الظلم وهو المالك والخالق الذي لا يحاسبه أحد، في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعا، فكيف إذن هو حالنا وحال تصرفاتنا وتذكروا أن من ابتعد عن الظلم والجهل فقد أقام العدل.. اللهم زدنا عدلا وإنصافا لكل موجودات هذا الكون أنفسنا أولا؛ ثم أشخاصه وأشيائه.