منذ أن اجتاح الشرق الأوسط حمى الفوضى في 2011م كان هنالك مؤشرات حقيقية نحو التقسيم السياسي في المنطقة، لم يشعر كثير من سكان المنطقة الملتهبة بواقعة التغيير الذي بدأ بإعلان انفصال جنوب السودان كتجربة للمشروع السياسي الذي وجدت فيه الولايات المتحدة رداً يشفي كبريائها بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م، الفكرة الأمريكية هي عبارة عن إنهاك العرب وخلخلة أنظمتهم السياسية ليتم القبول بالشرق الأوسط الجديد التي كانت قد بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندليزا رايس. ما حصل للسودان كان إنهاكاً استمر على مدار عقود طويلة عاشت فيه الصراعات مواسم لم تتوقف فيها الحرب حتى وصل السودانيون بمختلف أطيافهم إلى قناعة تامة أن الانفصال بين الجنوب والشمال سيكون حلاً ناجعاً به تتوقف الحروب المتوالية، حدث ذلك بل واحتفل الشرق الأوسط بهذا الانفصال، كان السودان اختباراً نجحت فيه الفكرة الأمريكية وانطلقت إلى دول أخرى. المسألة بالنسبة للأمريكيين ليست مؤامرة على العرب فلقد صنعت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في التسعينيات الميلادية ذات التقسيم وعلى ذات الأسس والمرجعيات عندما أوجدت حَلاً سياسياً لأزمة يوغسلافيا السابقة التي دخلت صراعاً عنيفاً بعد تهاوي الاتحاد السوفيتي فكان تدخل الناتو بمشاركة أمريكا حاسماً بتقسيم يوغسلافيا وإنهاء الصراع، وقد تكون يوغسلافيا نموذجاً مهماً بما يحتويه من العرقية والعصبية الدينية وحتى المذهبية، وهو ما يتقاطع مع دول الشرق الأوسط التي تعيش أوضاعاً مقاربة لتلك التي عاشتها دول البلقان آنذاك. من خلال الفوضى التي قادها تنظيم الإخوان المسلمين تحت شعار «الربيع العربي» اصطدمت الشعوب العربية مع أنظمتها السياسية الحاكمة، ظهرت كل أصناف البشاعة من قتل وتهجير وتشريد عبر الأداة المصنوعة «داعش» التي تولت المهمة المتوحشة فالعالم لا يحتاج لعقود خمسة كما حصل للسودان حتى وصل المعنيون به إلى الاقتناع بأن الحل لا يكون بغير الانفصال، لذلك فإن العنف الواسع باستخدام كل وسائل الإعلام التي أخضعت الشعوب العربية لحالة من الخوف والرعب جعلت من الموت في القوارب خياراً عن الموت في الأوطان التي لطالما اعتبروها خطاً أحمر. الإنهاك المتواصل الذي عرفته دول العراق وسوريا وليبيا واليمن هو الذي أوصل الجميع إلى تنفيذ كل ما يتوصل إليه «كيري ولافروف» من اتفاقيات ثنائية كما حصل في جنيف بالاتفاق الروسي الأمريكي فالاتفاق حدث بين طرفين أجنبيين، فهو اتفاق حول سوريا ولم تحضره الأطراف السورية نفسها (النظام السوري - المعارضة - الأكراد)، والاتفاق لا يحقق إلا وقف إطلاق النار، وهذا يعني استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وهو ما يعني عملياً تقسيم سوريا إما إلى مناطق فيدرالية (ثلاث دويلات) أو تقسيمها إلى مناطق نفوذ (روسيا تبسط نفوذها على العاصمة والساحل، وتركيا تبسط نفوذها على الشمال السوري، والأكراد يبسطون نفوذهم على مناطقهم من الحسكة والقامشلي شرقاً حتى نهر الفرات غرباً). إن هذا الاتفاق - وبغض النظر عن أنه هش - فإنه شديد الشبه باتفاق «سايكس وبيكو» منذ مائة عام بالضبط، فالاتفاق يفتح المجال أمام روسيا وأمريكا فقط لتوحيد جهودهما العسكرية للتخلص من الفصيل الأكثر فاعلية في مواجهة الأسد (فتح الشام - النصرة سابقاً) دون أي تفاصيل عن مصير الأسد أو شكل الدولة أو سبل عملية لإنهاء الأزمة، وهذا الاتفاق يعد المعارضة بحل للأزمة كما وعدت بريطانيا العرب منذ مائة عام بحصولهم على دولة، اعترضت فرنسا آنذاك على وعود بريطانيا - غير الجادة أصلاً - للعرب، وستحتج روسيا هذه المرة على وعود أمريكا - غير الجادة كذلك - للمعارضة !، والنتيجة هي كما كانت قبل مائة عام تقسيم وصراعات تدفع ثمنها شعوب المنطقة.