«دويتشه فيله» أو «الموجة الألمانية» هي «بي بي سي» ألمانيا. الإذاعة والتلفزيون. لا أدري أيهما أكثر ثقة أو موضوعية أو مهنية. الذي نعرفه أن للـ«بي بي سي» طابع، أو نكهة، «الإنجليز»، والموجة الألمانية، ألمان.. الفاصلة والنقطة والصوت الجدّي. ولكن أيضًا ألمانيات: شعر أحمر، وقامات فارعة، وابتسامات مثل إعلان معاجين الأسنان. قبل أيام، شاهدت على الموجة الألمانية فيلمًا وثائقيًا صوّره شاب من أصل بولندي ألماني عما عانته أسرته خلال الحرب من همجيات النازية. تحدث عن فظاظات جده وتاريخه السيئ. أجرى مقابلات مع أقارب أهله الذين لا يزالون على قيد الحياة. وأجرى مقابلة مؤثرة مع والدته التي هي طبيبة مثل والدها. لكنها اعتذرت عن عدم الدخول في التفاصيل بحجة أن الأفضل عدم إثارة ذكريات الماضي. في بولندا، أجرى مقابلة مع خالته التي روت له أنها أمضت عمرها تبحث هي وشقيقتها عن رفات شقيقهما المفقود. لم تتركا مدفنًا إلا بحثتا على بلاطاته عن اسم الشقيق. لا شيء. وفي أي حال، كانتا تعرفان ذلك سلفًا. لكن لا بد من المحاولة. يكفي ما تتركه الحروب من شعور بالذنب، ولا تريدان المزيد. ينتقل الشريط إلى نهاية الحرب، فنرى الألمان يحزمون حوائجهم، ويُحمِّلونها الشاحنات، عائدين إلى ألمانيا. من يساعدهم في ذلك؟ البولنديون: خذوا أمتعتنا أيضًا، لكن اذهبوا عنا. عودوا إلى بلادكم بلا رجعة هنا. يا لها من ساعة رائعة أن ترحلوا. وأنت تتابع هذا الوثائقي الرائع، تهلل للفن السينمائي. ترى أن الأشخاص العاديين أهم من أي ممثل محترف. تلاحظ أن المُخرج يختار البساطة والمباشرة لكي يرمي سحره، ويؤكد غايته المعنوية والفنية. تعجب مشهدًا بعد آخر كيف أن الموجة الألمانية تبث مثل هذه الحقائق عن الشعب الألماني، ولو كان ذلك في الماضي. تابعت الفيلم حتى قراءة أسماء الفنيين والمصورين، ثم اكتشفت أن أهم ما فيه ليس الشاب الراوي، ولا المخرج، ولا المنتج، ولا الأشخاص المتحدثين. بعد انتهاء الفيلم، جملة قصيرة تقول إن إنتاجه من اللجنة الألمانية البولندية للمسامحة والمصالحة. صعب عليك أن تشاهد هذا الرقي الروحي، ثم تنتقل إلى نشرة الأخبار العربية، حتى على «دويتشه فيله».