كان الإنسان في عصوره البدائية، يخصف عليه مما توافر له من أوراق الشجر، أو جلود الحيوانات... ثم مما تفتّق عنه وعيه وعبقريته، وظروف بيئته... حتى ابتكر أرقى الأزياء اليوم فصار اللباس زينة، وأُنشئت له دور الأزياء والعارضات والعارضين، ودخلنا في صرعات عجيبة غريبة في جنون الأزياء ومنها: تمزيق البنطال الجديد حول الرّكَب والأفخاذ...! وصار لأزياء السباحة، خصوصا النسائية، مصممون، ودور، وتجار، ووسائل إعلام وإعلان، وانتشرت نوادي العراة، ومسابح العراة للرجال والنساء. ومن أرادت الاحتشام لبست البيكيني، وهو زي سباحي سائد في بعض المجتمعات العربية أيضاً. وكل ذلك حق فردي في المجتمعات العلمانية وهو حق محمي بالقانون. وعندنا محمي بالعرف والتقاليد وطبيعة المجتمع، ونظام الحكم. ثم جاء البوركيني، وقامت قيامة العلمانيين في فرنسا، أُمّ العلمانية العالمية، فرنسا فولتير، وديدرو، وروسو... أليست العلمانية تقدّس الحرية الفردية المطلقة؟ فلتلبس المرأة ما يحلو لها من لباس البحر والبر، ولْتسبحْ وتتشمّسْ نصف عارية أو ربع عارية أو عارية تماماً. لكنْ ألا يحق للأخريات ارتداء البوركيني على شواطئ العلمانية؟ هل سيهز البوركيني دعائم الدولة العلمانية؟ والمدهش، ما أوردته وكالة «رويترز» على لسان كلاوس جرابيه رئيس الجمعية الأوروبية لتشخيص الأورام الجلدية الخبيثة، من وجهة نظر علمية، إذ قال إن البوركيني يقي، بشكل كبير، من سرطان الجلد. علماً بأن البوركيني ابتكار أُسترالي وليس إسلامياً؛ حيث ترتفع خطورة الإصابة بالأمراض الجلدية الخبيثة بسبب طبيعة الجو والمناخ هناك، ودلّت الإحصاءات التجارية أن 50 في المئة من إنتاج البوركيني ليس من شراء المسلمات! والمعلوم أن الأسترالية اللبنانية الأصل أهيدا زانيتي هي مبتكرة ألبسة الرياضة والسباحة النسائية عام 2004 تحت الاسم التجاري العالمي Ahiida، وأن غير المسلمات أيضاً يرتدين البوركيني لأسباب صحية. (فعلامَ الضجة الكبرى الآن؟ علامَ؟). وفي إسرائيل، صنيعة العلمانية الأوروبية، وشمال تل أبيب، يُخصَّص يوم الثلاثاء، وبحراسة امنية، لسباحة النساء اليهوديات المحتشمات، وهن يرتدين «البوركيني اليهودي» ذاته ولكن من دون غطاء الرأس. الدولة العلمانية الفرنسية كانت وفيّة لمبادئها التي شرّعتها الثورة الفرنسية، إذ أصدر القضاء الفرنسي قراراً بعدم قانونية حظره. لكن المصابين بالإسلاموفوبيا، يتنكرون لمبادئ هذه الثورة العظيمة بدافع تعصب وكره وحقد موروث، ومعاصر، وبفضل «داعش» وأخواتها طبعاً! ولا ننسَ المتاجرين بالأصوات الانتخابية والاصطياد في الماء العكر، إذْ توعّد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، وعينه على كرسي الإليزيه، البوركينيات بالويل والثبور، ليكسب أصوات عشاق التعري، أعداء البوركيني الإسلامي! ونسي أصوات خمسة ملايين مسلم فرنسي، والمرتدين للبوركيني فقط للوقاية من أمراض الجلد الخبيثة، أو الحشمة، أوالحرية الفردية العلمانية، وأن هناك فرنسيين محايدين، ومثقفين من عشاق مبادئ الثورة الفرنسية وهم علمانيون حقاً وصدقاً لا نفاقاً ومداهنة. مأزق العلمانية بين الحرية الفردية في التعري، والبيكيني، وحظر البوركيني الإسلامي فقط، والحملة الهستيرية ضده، دون البوركيني اليهوي، يجعلنا نقول: «أيتها العلمانية كم من الجرائم العنصرية تُرتَكَب باسمك»! * شاعر وناقد سوري