عندما كنت أهيّء لكتابة أطروحة الدكتوراه في احدى الجامعات الأميركية في نهاية الثمانينات، زرت بحكم ضرورات البحث الأكاديمي مركز الوثائق البريطاني في كيو غاردنز في لندن. وإذ كنت ابحث في سجلات وزارة الخارجية البريطانية لسنوات الحرب العالمية الأولى المتاحة للمؤرخين والباحثين، وقع نظري على برقية مرسلة من السفارة البريطانية بالقاهرة إلى وزارة الخارجية في لندن تطلب عدم إرسال أعداد إحدى الصحف البريطانية التي نشرت في 29 حزيران (يونيو) 1915 مقالاً للشاعر والمؤلف الإنكليزي الشهير رودلينغ كبلينغR. Kipling 1865-1936) يقول فيها إن المرء لا يمكن أن يشعر بـ «الابتهاج» عند موت المسلم إلا إذا كان هذا المسلم عربياً. استخدم كبلينغ الكلمة الإنكليزية rejoice وهي تعني بالضبط «الابتهاج» أو «السعادة الغامرة» كما ذكرت سابقاً. طلب الديبلوماسي البريطاني في القاهرة من لندن منع عدد الصحيفة من الوصول إلى البلاد العربية، وزاد ديبلوماسي أعلى رتبة في السفارة على ذلك إشارة أخرى تطلب عدم إرسال عدد الصحيفة المعنية أيضاً إلى الهند التي يسكنها- ولا يزال- عشرات الملايين من المسلمين. وبالفعل، عندما عدت هذا الصيف للبحث في الأرشيف البريطاني حول مواضيع تاريخية أخرى تذكرت مقالة كبلينغ وأردت التدقيق بها أكثر مما فعلت أثناء سنوات التحضير للدكتوراه، فوجدت الملاحظات التي ذكرت، لكن مقالة كبلينغ نفسها اختفت حتى من أرشيف مقالاته الموجود في المكتبة الوطنية البريطانية British Library. كتب الشاعر مقاله في وقت احتدام المعارك بين القوات البريطانية والقوات العثمانية في معركة مضيق الدردنيل في بداية الحرب العالمية الأولى. وقد أصابتني الحيرة من كراهية كبلينغ للعرب في الوقت الذي كان الأتراك هم المتسيّدين في اسطنبول وكانت احتمالات التحالف العربي مع بريطانيا قائمة. ثم وجدت تفسيراً لكلام كبلينغ عندما قرأت انه كان من أنصار الدور الاستعماري والإمبرطوري لبريطانيا وكذلك في احتمال أن يكون قد قصد بكلمة «عربي» في الواقع «البدوي» كما كان قد فعل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة. إلا أن هذا التفسير ظل متأرجحاً لأن الغرب كان قد وصف الشخص الذي يعيش في مجتمعات البداوة أو المجتمعات البدائية بـ «المتوحش النبيل» (Noble Savage) ولم أجد أي أثر لصفة النبل في كلام الشاعر والمؤلف الإنكليزي بينما كان معنى «التوحش» مضمراً. إلا أنني انتهيت إلى تفسير لا أجزم بصحته وهو أن كبلينغ كان يتحدث عن المعارك مع الأتراك الذين كان يعتبرهم مقاتلين مسلمين ممتازين فكان متأسفاً على وقوعهم قتلى في المعارك بواسطة أبناء جلدته، فقارنهم بالمسلم الآخر، أي العربي، الذي رسم له صورة سلبية جداً في مخيلته. ما مناسبة هذا الكلام على مسألة مرّ عليها أكثر من قرن كامل من الزمن؟ مناسبته هي أنه لا يبدو أن الكراهية لكل ما هو عربي أو اسلامي قد تغيرت في كثير من دوائر الغرب، ومناسبته أيضاً هو المقال الذي كتبه زبغينو بريجينسكي، مستشار الرئيس الأسبق جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، والمؤسس الفعلي لنظرية استخدام الدين في السياسة الدولية في الفترة الأخيرة من الحرب الباردة - الساخنة (في أفغانستان)، وإطلاق تنظيم «طالبان» الذي أنشأ «القاعدة» في ما بعد وجعل التنظيمات الإسلامية المسلحة رائجة بقصد أو من دون قصد في أنحاء العالم. يقول بريجينسكي في مقاله الأخير: «نحو ميزان قوى عالمي جديد» في مجلة «ناشونال انترست»: «إن العنف السائد في العالم الإسلامي يعود في جزء منه إلى رد الفعل على الظلم الذي تعرض له على يد القوى الأوروبية، ومع دافع ديني يمكن لهذا الشعور أن يوحد أعداداً كبيرة من المسلمين في مواجهة العالم الخارجي. ولكن، في الوقت نفسه وبسبب الخلافات الطائفية التاريخية داخل الإسلام ذاته والتي لا علاقة لها بالغرب، فإن التطورات الجارية حاسمة داخل الإسلام أيضاً». إذاً، يعترف الإستراتيجي الأميركي البارز عالمياً بالظلم الذي وقع على العالم الإسلامي، وإن كان يحاول حرف المسألة نوعاً ما بالحديث عن الخلافات المذهبية الإسلامية التي لم تتصدر المشهد العام في العالم الإسلامي في التاريخ الحديث والمعاصر إلا في السنوات الأخيرة بعد الثورة الإيرانية في 1979. ما هو الحل الذي يقترحه بريجينسكي لرفع الظلم المؤدي إلى العنف وفق توصيفه؟ إنه اقامة حلف بين كل دول العالم الرئيسة - أميركا وروسيا والصين - وكذلك الدول الإقليمية للإجهاز على العنف الذي كان الظلم سببه أي أن دواء الظلم هو المزيد من الظلم: «... لن يعود الاستقرار إلى الشرق الأوسط ما ظنت التشكيلات العسكرية المسلحة المحلية أنها يمكن أن تكون في وقت واحد مستفيدة من الترتيبات الإقليمية بينما تمارس العنف الشديد. لا يمكن كبح قدرتها على التصرف بطريقة وحشية إلا من خلال ضغط فعال من تحالف الولايات المتحدة وروسيا والصين، والذي يحسّن، من الاستخدام المسؤول للقوة من جانب الدول الإقليمية (إيران وتركيا وإسرائيل ومصر)». هكذا يتوصل مستشار الأمن القومي الأميركي السابق إلى المعادلة السحرية: الظلم ينتج العنف/ إزالة العنف لا تكون برفع الظلم/ الرد على العنف يكون بعنف أكبر وأشمل ومن جهات دولية متعددة. ويسأل العربي في النهاية: ما هي المسافة بين الشاعر والمؤلف الإنكليزي كبلينغ الذي كان لا يبتهج إلا بمقتل العربي المسلم الذي لم يرفع السلاح بوجهه وبين زبغنيو بريجينسكي، الخبير الاستراتيجي الأميركي الذي لا يزال مسموع الكلمة، والذي يرى ان عنف المسلمين المظلومين لا يُعالج إلا بزيادة ظلامتهم؟ وقد لا نكون وجدانيين كثيراً إذا رددنا مع الشاعر: «هذا زمان الموت وكل موت فيه موت عربي». * كاتب وأكاديمي لبناني