قبل دخول الكاتبة التركية أصلي أردوغان السجن عقب الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا لم يكن اسمها معروفاً في العالم العربي ما خلا أوساط القراء الذين يجيدون اللغة التركية. هذه الكاتبة التي تُرجمت إلى لغات شتى لم يعرفها العالم العربي إلا بعد توقيفها في عداد الكتّاب والصحافيين الذين اقتيدوا إلى المحاكم والسجون والذين كيلت لهم تهم قاسية منها «الانتماء إلى منظمة إرهابية» و «التحريض على الفوضى». وعلى خلاف أورهان باموك وأليف شفق اللذين تروج أعمالهما في ترجماتها العربية لم يترجم لأصلي أردوغان إلى العربية - مبدئياً - سوى قصة وحيدة عنوانها «الطيور الخشبية» ضمّتها مختارات من القصة النسائية التركية (سلسلة إبداعات عالمية – الكويت 2015). وقد نسب المترجم صفوان الشلبي هذه القصة خطأ إلى كتاب «المبنى الحجري» بينما هي واحدة من قصص كتاب يحمل عنوان «الطيور الخشبية» بحسب الترجمة الفرنسية الصادرة عن دار «أكت سود» في باريس. أما «المبنى الحجري» فهي رواية قصيرة، بديعة في جوها المتراوح بين الكابوسي والواقعي. غداة الانقلاب الذي هز تركيا وأدى إلى ردود فعل غير منتظرة، كانت أصلي أردوغان (لا علاقة قربى بينها وبين الرئيس أردوغان) قد كتبت على موقعها الإلكتروني نصاً عنوانه «في أسفل الجدار» أعربت فيه عن قلقها إزاء الانقلاب الذي يعبّر عن حال من التململ الحقيقي حيال السياسة التي تتبعها الحكومة والرئيس أردوغان. لكن توقيفها في 17 آب (أغسطس) لم يكن عقاباًَ لها على هذا النص بل جراء التهم التي وجهت إلى كل الصحافيين المعارضين الذين أوقفوا أيضاً وهي في مقدمهم، لا سيما في دفاعها عن حقوق الأقليات في تركيا كالأرمن والأكراد. وقد أوقفت الصحيفة التي كانت تعمل فيها وهي «أوزغور غوندم» التي تلتزم الدفاع عن القضية الكردية وحزب العمال، في جريرة الصحف ووسائل الإعلام المختلفة التي تم تعطيلها. لا تزال أصلي (مواليد 1967) ترتع في سجن «باركيركوي» للنساء في إسطنبول على رغم الحملة التي قام بها مثقفون وكتاب وفنانون أتراك منادين الحكومة بإطلاق سراحها، وقد رفعوا بياناً في هذا الشأن كان باموك وأليف شفق من موقعيه. أما في الخارج فقامت حملات عدة دعماً لها ومنها حملة نادي القلم الدولي (بن كلوب) ودار أكت سود ناشرتها الفرنسية. هل كانت أصلي تتخيل أنها ستدخل يوماً السجن هي التي عملت -وتعمل- في ميدان مناهضة السجون داخل نادي «بن كلوب» والتي كتبت إحدى أجمل الروايات عن السجن في صيغته التركية وهي «المبنى الحجري»؟ لكنّ المفارقة أن هذه الكاتبة المناضلة في حقل حقوق المرأة التركية والتي كانت تعرضت في طفولتها للتحرش الجنسي، تقبع في سجن النساء، وقد تتاح لها الفرصة هنا لمعاينة وجه آخر من معاناة المرأة، المرأة السجينة. كانت أصلي في الثلاثين من عمرها عندما قررت هجر اختصاصها في علم الفيزياء لتنصرف إلى الكتابة القصصية والروائية وإلى الصحافة. وعملت في الصحيفة اليسارية «راديكال» والصحيفة التركية –الأرمنية «أغوس» ثم في صحيفة «أزغور غوندم». وما أن بدأت في نشر مؤلفاتها حتى لقيت ترحاباً لدى النقاد والقراء. والآن بات اسمها معروفاً عالمياً من خلال ترجمة أعمالها، ومنها: المدينة ذات العباءة الحمراء، الموظف المعجزة، الرجل المستتر، في صمت الحياة، نهاية رحلة، يوميات مجنون، مرة أخرى، المبنى الحجري... نالت أصلي جوائز عدة وأدرجتها مجلة «لير» الفرنسية في قائمة «خمسون كاتباً للمستقبل». سافرت إلى البرازيل وأمضت فيها فترة ثم استوحت رحلتها هذه في روايتها «المدينة ذات العباءة الحمراء»، من خلال بطلتها الشابة التركية التي تدعى أوزغور والتي تهيم في مدينة الريو بحثاً عن حلم مجهول. وأقامت أصلي أيضاً في سويسرا فترة وكتبت من وحيها قصة بديعة في «العصافير الخشبية» عن شاب تركي يهاجر إلى سويسرا بعدما ضاقت به إسطنبول عقب وفاة حبيبته، فيختار العيش على ضفاف بحيرة ليمان وهناك يسترجع حكاية حبه المأسوي. قد يسأل القارئ العربي: لماذا لم تترجم أصلي أردوغان إلى لغة الضاد التي باتت تنعم بما يكمن تسميته «مكتبة» الأدب التركي وتحديداً الرواية التركية؟ ناظم حكمت، ياشار كمال، عزيز نيسين، أورهان باموك، أليف شافاك، نديم غورسيل وسواهم... جميعهم مترجمون إلى العربية وأعمالهم تشهد إقبالاً. هل يكون سجن أصلي حافزاً إلى ترجمتها إلى العربية؟ قد تكون رواية «المبنى الحجري» (الترجمة الفرنسية، دار أكت سود - باريس ) مدخلاً إلى قراءة جانب من عالم أصلي أردوغان الفريد وليس كله، فهذه الرواية تمثل تجربة بذاتها في مسار الروائية والقاصة. فهي أولاً تدور في أجواء السجن التركي غداة الانقلاب العسكري الشهير الذي حصل في 12 أيلول (سبتمبر) 1980 وفرض نظاماً عسكرياً شبه دكتاتوري وفتح أبواب الزنزانات واسعة رامياً فيها المعارضين اليساريين والعلمانيين على اختلاف مواقعهم. تستوحي أصلي المناخ القاتم الذي ران على تركيا بعد صعود النظام العسكري الذي دام ثلاث سنوات، وكان والدها ووالدتها، المثقفان الملتزمان، من ضحاياه ودخلا السجن، ورويا لها ما شهدا من أحوال مأسوية قاسية ولا إنسانية. لكنّ أصلي لم تشأ روايتها واقعية وتوثيقية بل كتبتها بروح شعرية وأسلوب تخييلي وحلمي دامجة الواقع بالكابوس، حتى لتبدو بضع صفحات كأنها فعلاً فصول من الكتابة المتفلتة من أسر المنطق السردي. واعتمدت أصلي شخصية الراوية التي تسرد وقائع العالم الداخلي للسجن ولكن سرداً متقطعاً بين التذكر والتخييل والوصف. فهي كما تقول استعارت عين «البطل» الذي تسميه أ. والذي قضى تحت التعذيب في السجن. هو «رجل الظلمات» كما تصفه، بل «الملاك الذي لم يتمكن من إنهاء حكايته». ولئن ظلت الراوية شخصية شبه غامضة انطلاقاً من توليها فعل السرد، فهي تسعى إلى أن تجعل من «البطل» أ. شخصاً ولكن ليس من لحم ودم تماماً وإنما من روح وظل، كأن تقول في الفصل الأول: «أ. لا ينتبه إليه أحد. يرقد مثل كيس فارغ أمام نافذة. استلقى أمام الأبواب التي طرقها. كل الشوارع ملكه لكنه لا يذهب إلى مكان(...). وجوده هو قصيدة عن الإنسان. هالة الجنون لا ترد عنه البرد والألم والضربات، لكنها تحميه من ذكرياته الأولى عن المبنى الحجري... لا يحاول أن يفهم العالم واعتقد أنني أنا من يحاول أن يُفهمه إياه. لا يغضب بتاتاً كذلك. العالم لم يكن له إلا بمثابة إسفنجة تمتص الماء الوسخ الذي رميت فيه. ويجب القول إن ما يسمى «العالم» ليس سوى صورة مرسومة على زجاج يغشاه البخار». ثم تخاطبه قائلة: «تكلم قليلاً يا أ. احفظ ظلك بالكلمة. اعط ظلك مزيداً من الظل، اجعل الواقع يتكلم مثقلاً بالظلال». لكنها تدرك جيداً أنها هي التي تتكلم باسمه. وباسمه تروي مآسي هذا المبنى الحجري وما يكابد قاطنوه من ألم وعزلة وذل ورعب. رجال ونساء معارضون، مثقفون وطلاب، سياسيون «سقطت أسنانهم وسال الدم من أفواههم»، لصوص وأولاد شوارع يخضعون جميعاً للتعذيب الذي يرسم على أجسادهم خطوطه النافرة. في مستهل الرواية نقرأ هذه المقاطع التي تفصح عن طبيعة الرواية والمكان الذي تدور فيه وقائعها: «الأحداث جلية، نافرة، فظة... ما يهمني، شخصياً، هو ما يتهامس السجناء به. افتش بين كل هذه الحجارة، بحثاً عن حفنة من الحقيقة، أو على الأقل عما كان يسمى هكذا من قبل، ولم يبق الآن له اسم. (... )الحقيقة تتحاور مع الظلال. الآن أريد أن أتكلم عن المبنى الحجري الذي يختبئ القدر في إحدى زواياه. شيد المبنى قبل أن أولد، ويضم خمسة طوابق علاوة على القبو ودرج المدخل(...). الكلمات لا تتكلم إلا مع كلمات أخرى. لنأخذ حرف الحاء ثم الياء والألف والتاء المربوطة ثم نكتب حياة. شرط ألا نخطئ في توارد الأحرف، وألا ندع، كما في الأسطورة، حرفاً يسقط (...). أكتب الحياة من أجل الذين يقدرون على قطفها بنفَس وآهة. كما لو نقطف ثمرة عن غصن، كما لو نقتلع جذراً. يبقى لك الهمس الذي يتناهى إليك عندما تضع أذنك على صدفة فارغة. الحياة: كلمة تلج نخاعك وعظامك، همس يثير الألم، صوت تملأه المحيطات. قال فتى صغير يوماً: إذا لم تستفد من الحياة فهي تستفيد منك. كان فتى أسود العينين، خُلق من لقاء ظلامين، وقد عرف متأخراً جداً المبنى الحجري. لم يعتره الخوف يوماً لأنه يتذكر رعبه الأول أو لأنه نسيه ربما». تعتمد أصلي أردوغان في روايتها «المبنى الحجري» نفَساً شعرياً، منفتحاً على الحلمي والكابوسي، ولغة شفافة ذات بعد غنائي، مع أن جو الرواية لا يخلو من القسوة التي هي قسوة السجن في ظل نظام عسكري. وهنا في هذه اللعبة ذات الحدين، تكمن فرادة هذه الرواية.