استمع كمال بالهادي من أكثر المصطلحات التي تم ابتسارها، وتم تسطيح مفهومها، هو مصطلح التنمية. فقد تم حصرها في التنمية الاقتصادية وفي بعث المشاريع الصغرى التي تحفظ للإنسان الحد الأدنى من العيش الكريم، والحقيقة أن التنمية مفهوم عميق، يرتبط بكل فعل حضاري ينجزه أي مجتمع من المجتمعات، ويرتبط أيضاً بالمناخ الذي يسمح بتحقيق التنمية الشاملة، أو يعدم كل فرصة لها. في بدايات حراك ما بات يعرف بالربيع العربي، كانت مطالب الشباب الثائر من تونس إلى مصر ومن ليبيا إلى اليمن وسوريا وغيرها من الدول التي شهدت حراكاً اجتماعياً، تتلخص في التنمية. وربما فهم السياسيون أن الشباب المنتفض يريد تحسين أوضاعه الاجتماعية بتوفير فرص الشغل، وهذا جزء بسيط، لأن المطلب الرئيسي الذي رفع، تلخص في الكرامة. والكرامة مفهوم شامل لا يتحقق إلا بالتنمية الشاملة، أي بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية الثقافية والسياسية. وبهذا المعنى فإن أولئك الشباب الذين طالبوا بالتنمية ورفعوها شعاراً إنما كانوا يستبطنون الدعوة لمشروع حضاري شامل، ينهض بالإنسان، ويغير المجتمع والدولة. فلا معنى لتنمية اقتصادية تحقق نمواً اقتصادياً من دون عدالة اجتماعية ومن دون تنمية ثقافية ومن دون حياة ديمقراطية، يكون فيها الفرد مواطناً مكتمل المواطنة. لقد حققت الدولة العربية المعاصرة على اختلاف أنظمتها السياسية، شيئاً من التنمية، ولكنها ظلت على مدى عقود طويلة، تنمية مبتورة، لم تستطع أن تحقق النهضة الشاملة والتحديث والعصرنة، على خلاف بقية المجتمعات التي كانت في منتصف القرن العشرين أقل حظاً من الدول العربية، من حيث الإمكانات البشرية والمادية، ولكنها استطاعت أن تبني الإنسان من خلال تنمية شاملة. وإن كانت التنمية مرتبطة إلى حد كبير بالسياسات والخيارات الوطنية للدولة، فإنه يمكن القول إن الدولة الوطنية الناشئة في الوطن العربي بعد الحقبة الاستعمارية، راهنت على خيارات وطنية واستطاعت أن تحقق منجزات كثيرة في وقت قصير، نقل الدول العربية من التخلف المطلق إلى مصاف الدول النامية. وتمت المراهنة على نشر التعليم والثقافة، جنباً إلى جنب مع توفير الخدمات الصحية، وتطوير الزراعة والصناعة، ولا يمكن لأحد أن ينكر ما تحقق من خطوات مهمة في هذا المجال، وعلى كل المستويات. وهناك عنصر مهم في تحقيق هذه التنمية الشاملة- على نقائصها الكثيرة- وهو عنصر الاستقرار السياسي. صحيح أن النظام السياسي العربي يعاني خللاً كبيراً، وله عدة سقطات، تسببت في أزمات وصراعات، ولكن النظام السياسي، حافظ على الحد الأدنى من الاستقرار الذي مهد لتنفيذ مشروعات تنموية متعددة المجالات والفروع. واليوم يعيش الوطن العربي حالة من انعدام الاستقرار السياسي، بل حالة من الفوضى الهدامة التي جعلت ما تبقى من الدولة، ركاماً. فهل يمكن الحديث لعقود قادمة عن أي مشروع تنموي أو نهضوي، خاصة أن هذه الفوضى الهدامة، لم تنل من أسس النظام السياسي فحسب، بل إنها نالت من كل القيم والمفاهيم، حتى أن بعض الجماعات تسعى إلى نسف كل مظهر من مظاهر الحداثة والتحديث؟ لقد قاوم الفكر السياسي العربي طويلاً، النظام السياسي، وحاول أن يؤثر فيه بالإصلاح، والتوجيه نحو قبول الفكر المختلف ونحو إرساء التعددية ورفع الفرد إلى درجة المواطن الكامل. ولم يكن تجاوب النظام السياسي مع مطالب الإصلاح، على نفس الوتيرة. ولعل عدم تجاوب الكثير من الأنظمة مع مطالب الإصلاح، هو الذي دفع إلى هذا الانفجار العظيم، الذي يأتي على الأخضر واليابس. إن مرحلة الفوضى التي نعيشها تعدم كل محاولة للتنمية الشاملة، وتعدم كل فرصة للنهوض مجدداً. لأن الفوضى تستهدف ضرب كل ما هو قاسم مشترك، يجمع الناس على حد أدنى من التوافق، وباستثناء حالة واحدة هي تونس، فإن دول الربيع العربي الأخرى، تحتاج إلى عقود طويلة كي تعيد ترتيب البيت، وكي يتم تجاوز مآسي اللحظة الراهنة. هذا إذا ما ظلت الحدود الجغرافية الحالية على حالها ولم تساهم في تشتيت المشتت، ولم تؤد إلى زيادة التمزق الاجتماعي والمذهبي و الثقافي بين مكونات الدولة الواحدة. على الفكر العربي أن يتناول هذه الحقبة التي نمرّ بها، بدراسات عميقة، تتناول بالدرس والتمحيص الأسباب التي أدت إلى هذا الانفجار الفوضوي، والمدمر. وعليه أن يبحث أيضاً في آليات الإصلاح الشامل، وفي بدائل تنموية حقيقية تكون حصناً قوياً ضد كل انهيار جديد. وهذا يتطلب رؤى معتدلة ومنفتحة، ويتطلب تعددية في الخيارات، ومشاركة مواطنيه واسعة، في رسم تلك الخيارات. kamelbelhedi@yahoo.fr