الكاتب البريطاني روبرت ليسي في كتابه (المملكة) والصادر في العام 2013م وكذلك الجزء الثاني الصادر في 1913م فيه أصدق تصوير عن حالة وتطور المملكة العربية السعودية منصفا بطل التوحيد المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وكيف كانت معاناة المؤسس وصبره وجلده وتحمله الكثير حتى أصبحت دولته بهذا الثقل العالمي في قصة مدهشة لوطن استثنائي في كل شيء. يذكر المؤلف أنه في أول موسم حج في عهد الملك عبد العزيز أراد المتشددون أن يفرضوا قناعاتهم الخاطئة على المحمل الذي كان يقطع البحر الأحمر متجها إلى مكة المكرمة في احتفال مهيب مصحوبا بالحرس لحمايته من قطاع الطرق (قبل استباب الأمر للمؤسس رحمه الله). وكانت الأوامر تنقل بواسطة الأبواق وكان وصول المحمل آنذاك إلى مكة حدثا عظيما وظاهرها تعمها الفرحة. رأى المتشددون المحمل مزركشا تحمله الأكتاف وتعزف حوله الموسيقى وتنفخ حوله الأبواق كعادة مصاحبة لهذا المحمل، حتى رشقوه بالحجارة وقامت مناوشات للقضاء على مظاهر الوثنية وعبادتها من وجهة نظرهم كادت تتطور إلى معركة حقيقية، عندما ظهر الملك عبد العزيز فصرخ في هؤلاء المتشددين ودفعهم إلى الوراء كابحا تطلعاتهم معطيا لمكة المكرمة حرمتها وقدسيتها فعند قدومه أقام في خيمة متواضعة خارج أسوار مكة خالعا سيفه وثيابه مرتديا إحراما أبيض ودخل عبر باب السلام وسار أجرد الرأس مع الجماهير إلى الحرم الشريف. تذكرت هذه الواقعة وأنا اقرأ في الحياة (18557) أن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوقفت فعاليات مدرجة ضمن مهرجان (الحارة المكية) بدعوى وجود آلات موسيقية. الأمر الذي نفاه منظمو المهرجان واصفين تصرف رجال الهيئة بالفظ وغير المقبول. مؤكدين خرق هؤلاء المتشددين المفاهيم المبرمة بين المنظمين والهيئة قبل انطلاق المهرجان. وقد أوقف رجال الهيئة الزفة الحجازية للفرقة الشعبية بدعوى وجود موسيقى رغم عدم صحة دعواهم حسب رواية مسؤول الأمانة الذي قال إنه حضر أربعة من رجال الحسبة يرافقهم شخصان لا يحملان بطائق تعريفية مخالفين بذلك أنظمة الهيئة وتشريعاتها وصعدوا إلى المسرح وأوقفوا الزفة الحجازية وطردوا الفرقة الشعبية، رغم أن المكان مخصص للعوائل ولا يوجد اختلاط. كما تم الاتفاق (بمنع دخول العزاب) إلى مكان الفعاليات في ظاهرة مرفوضة خارجة عن المألوف لا نعرفها إلا نحن. إن عادات الزواج في منطقة الحجاز والتي جسدها مهرجان الحارة المكية مثل الشبكة والملكة والجسيس والغمرة والدخلة والزفة والنصة والصبحة والرفد والفزعة وغناء الصهبة والمزمار من العادات الاجتماعية التي الأصل فيها الإباحة، عكس العبادات والتي الأصل فيها الوقف، فلا يحق لأحد من الناس التدخل في عادات الناس وتحريمها والانتقاد عليها ثم إن الغناء هو محل خلاف بين الفقهاء عامة. وللناس الأخذ بما يرونه ملائما لحياتهم دون الإنكار عليهم، كما أن الاحتساب لا يصح في هذه المسأله لأن الأمور الاجتهادية ليست محلا للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، وإنما محلها ما كان متفقا عليه من الواجبات والمنهيات الشرعية. كما أن الزفة الحجازية هي من لزوميات الأعراس في منطقة الحجاز تناقلتها الأجيال حتى أصبحت من العرف الذي لا يتم الزواج إلا به، علاوة على أن الفرح مطلوب إظهاره في أماكن الفرح والسرور فعندما احتفل الأحباش بعيدهم يغنون ويزفون في باحة المسجد دعا النبي عليه الصلاة والسلام عائشة لتنظر وتفرح ولم ينكر عليهم، ويقول نبي الرحمة لأبي بكر رضي الله عنه دع جواري الأنصار يغنين ويضربن بالدف فإنها أيام عيد يقصد المغنية حمامة ومن معها صحيح مسلم 6/488. ويقول لعائشة أهديتم الفتاة إلى بعلها؟ قالت نعم قال وبعثتم معها من يغني؟ قالت لا. قال أو ما علمتم أن الأنصار يعجبهم الغزل ألا بعثتم من يغني لها. وكان في مكة عشرات المغنيات حتى بعد الإسلام يغنين في الأعراس ذكرهن صاحب الإصابة والأغاني والعقد الفريد يستعان بهن في الأفراح والمناسبات المختلفة ويأخذن أجرا على هذه المهنة ولازلن، إن هذه المهرجانات معتمدة من الجهات المختصة تحكي عن فترة سادت بكل تقاليدها وأعرافها نسيها شباب الحاضر ولكنها لازالت قائمة في نفوس من عاشها. تبرز أنماط حياة الأجداد والموروث الثقافي بكل أطيافه. هذه المهرجانات مثل «كنا كدا» في جدة والحارة المكية في مكة المكرمة ومهرجان الأسرة في الرياض وغيرها من المهرجانات تتبناها وزارة الثقافة والإعلام تحت عنوان الأيام الثقافية وتطوف بها الدنيا يقدرها العالم ونحاربها نحن. إن تصرف الهيئة لم يكن في محله وترويع الآمنين واقتحام أفراح الناس ليس من الدين في شيء. ها هو مهرجان الجنادرية (29) بألقه وعبقه التاريخي مهرجان يعبر عن الأصالة السعودية وجسر يربط ماضي الأمة بحاضرها المشرق، فلا مكان فيه للاحتساب والتشاطر أمام الضيوف والزوار كما حدث زمان. فلا تحرموا ما أحل الله ولا تدخلوا في عادات الناس وللحسبة آدابها وأنظمتها وأماكن الاحتساب فيها فلا مكان لكم فيها ولا تقربوا.