مازالت أوهام الكاتب التقليدية تملأ الرؤوس. كاتب الجرائد مازال مثقفاً متحضراً بيته مليء بالكتب يعرف أين تقع البرازيل ومن اكتشف البنسلين. أنيق ذرب متحدث لبق إلخ.. لن أنسى المرة الأولى التي التقيت فيها بكاتب جريدة. كنت حينها للتو عرفت أسماء الكتاب المشاهير. طه حسين العقاد المنفلوطي وحمد الجاسر. كانت تلك الأسماء محاطة بإجلال وتقدير. سوء تقديري رأى لي أن كل الكتاب من طينة واحدة. جلست معه وأنا أتنافض من الخوف خشية الزلل فأمامي كاتب في جريدة معتبرة وله اسم وتوقيع. تظهر صورته في الجريدة يتكئ بذقنه على قبضته لإبراز الساعة والفتخة والكبك. وبعد قليل اكتشفت أن ثقافتي البسيطة والخالية من أي مصدر أفضل من ثقافته. أصبت بصدمة. كنت صغيراً في السن أخلط بين كتاب الزوايا الصحفية وبين الكتاب الحقيقيين. يعود هذا الخلط إلى أن الصحافة في المملكة قدمت لنا كمصدر من مصادر المعرفة والثقافة. كان نظامها المعرفي يتصل بالأدب. بدأت على أيدي أدباء. حمد الجاسر وابن خميس والعطار وغيرهم وتعهدها بعد ذلك مثقفون أيضاً واستمر المثقف السعودي لصيقاً بالصحافة ويمكن القول أن معظم الكتب التي صدرت لكتاب سعوديين كبار هي في الواقع تجميع لمقالات نشرت على صفحات الجرائد والمجلات. مع الأسف مازال هذا المفهوم سائداً حتى الآن. نتذكر كيف استطاعت وزارة الثقافة قبل سنتين أن تدعو ألفي مثقف في بهو فندق واحد. حتى فرنسا بلد المثقفين لا تستطيع أن توفر هذا العدد. ربما تكون الصين بحكم عدد السكان هي الدولة الوحيدة التي يوجد بها مثقفون يملؤون فندقا بحجم الفندق المشهور. رغم أن الصحافة السعودية بدأت تستقل عن الأجواء الثقافية وتصنع صحفيين على قدر كبير من المهنية والاحترافية إلا أن بعض الناس مازال يعاني من هذا الخلط. من كتب زاوية صحفية وأجري معه حوار أو حواران في فضائية يصبح مثقفاً. السؤال من هو المثقف. من هو الإنسان الذي يمكن أن نصفه بالمثقف. سؤال من الصعب الإجابة عليه. أتذكر قرأت كتاباً قبل سنوات بعيدة لفيلسوف فرنسي يدعى جان بول سارتر ناقش هذا المسألة. يقرن الأمر بالحرية والمسؤولية والالتزام. يرى أن الإيمان بالحرية هو أول شروط المثقف. ثم تأتي مسألة الإحساس بالمسؤولية. أي أن المثقف لا تتوقف مسؤوليته عند حدود مصالحه. ثم يأتي الإلتزام بهذه المسؤولية وتعهدها. إذا تحدث المثقف عن الحرية لا يتحدث عن حرية عائمة وغير محددة. عليه أن يحدد حرية من؟ الإنسان الفلسطيني المرأة في الصومال الزنجي في أنجولا. عليه أن يحدد من هو الضحية ومن هو الجلاد المعني في كلامه. المثقف أيضا من يستطيع أن يرى القضية في صورتها المجردة. يراها في أعلى مستوياتها يعرف غريمه الحقيقي. إذا ارتفع سعر الطماطم في السوق لا يناقش صاحب البقالة ولا الموزع ولا حتى صاحب المزرعة. غريمه في مكان آخر. عند هذه النقطة سنفصل كاتب الجرائد عن المثقف. كاتب الجرائد يشتم صاحب البقالة وإذا أبعد قليلا شتم الموزع ولن يأخذه خياله إلى أبعد من صاحب المزرعة.