كان يفترض أن يكون الهدف هو المواطن العالم بالأمور ما ظهر منها، وحبذا ما بطن. وكان المعلن هو إنهم يقدمون إعلاماً محايداً (إلى حد ما) منصفاً (بقدر المستطاع) متوازناً (بالقدر الذي تسمح به الظروف والأحوال)، حتى وإن كان جانب من الهدف هو توجيه الرأي العام تارة صوب اليمين وتارة صوب اليسار من دون الانزلاق في هوة يمينية هنا، أو الانجراف في سيل يساري هناك. وجرى العرف أن يدفع هذا المذيع عن نفسه شبهة الانحياز، إن لم يكن اقتناعاً بالبراءة وإيماناً بالموضوعية، فلتجميل الصورة وتزيين الواجهة. لكن الواجهة تهشمت والصورة تبدلت والمحتوى الإعلامي صار كاشفاً من دون مستحضرات تجميل موضوعية. عواصف الربيع العربي التي فاقت قوة توابعها الانتقالية قوة العاصفة الأصلية، لم تدع لقناة إعلامية الوقت أو الجهد للاستمرار في التجميل. فبين قناة إقليمية تركض بسرعة البرق من أجل الإجهاز على ما تبقى من دول لم تؤت الرياح الربيعية على أجهزتها ومؤسساتها، وأخرى غربية تدس سم الفرقة وقرف الفتنة في عسل الحرية، وقناة محلية تدق على أوتار ديموقراطية الصندوق حتى وإن كان صندوقاً يحمل التفخيخ للبلاد وأخرى تعزف مقطوعة حكم فاسد مضى وكأنه كان غاية المنى، بات المواطن الجالس أمام الشاشة المتفجرة مؤامرات والحاملة عدداً هائلاً من اتهامات التخوين، يجد نفسه مضطراً لأن يخلع رداء المواطن الواعي العالم الملم بالأمور ويرتدي عباءة المواطن المخبر. ظاهرة المواطن المخبر آخذة في الانتشار. مواطن الأمس المغيب الذي كان يجد نفسه مضطراً على مدى عقود إلى تجرع أخبار قناة «الحكومة» الوحيدة، والتلصص على حقائق الأمور عبر اختلاس دقائق ينصت فيها لـ «بي بي سي» هنا أو «مونت كارلو» هناك أو «صوت أميركا» هنا وهناك، ثم يعود أدراجه إلى قناة «سافر فخامة الرئيس» ثم «عاد السيد الرئيس بسلامة الله إلى أرض الوطن». أرض الوطن التي باتت عامرة بكل صنوف القنوات، والتي تضخ كميات هائلة من الأخبار والأخبار المضادة، والنقاشات الموجهة توجيهاً صارخاً لا ريب فيه، والآراء والآراء نفسها وكأنها تجادل بعضها بعضاً، وتخصص ساعات وتفرد برامج بذاتها لعرض المؤامرات، وتوجه النداءات للمواطنين الشرفاء ليتنبهوا ويحذروا، وتناشدهم أن يقوموا بواجبهم الوطني ويمتثلوا لضميرهم العربي فيبلغوا السلطات إن رأوا هذا يميل إلى فكر سياسي «عميل»، ويتصلوا بالأمن إن اشتبهوا في أحدهم عله يحيك مؤامرة لهدم الدولة، وإن تعذر الإبلاغ وتعثر الاتصال، فعليهم مواجهة العملاء ومجابهة المندسين بأنفسهم. والنتيجة الحتمية هي تحول المواطن في ضوء رياح الربيع العاصفة وتوابع التغيير الهادرة من مواطن مغيب في ظل أنظمة فاسدة، إلى مواطن ملمّ في ظل أشهر ثورية عاصفة، ومنهما إلى مواطن مخبر بفضل شرق أوسط كبير وخريطة عالم يبغى التغيير.