هناك معرفة واسعة لدى كثير من الناس بترهل الأبدان، وزيادة الأوزان في أجسام البشر، لما لذلك من آثار مباشرة على صحة الفرد، وانتظام عمل أجهزته بصورة طبيعية؛ فنشأت تصنيفات للزيادات الممكنة والأوزان المثالية والحدود المقبولة في تجاوزها، وكذلك الحالات والأوضاع، التي قد لا يقبل الأطباء أو التوصيات الصحية أي زيادة مفرطة فيها. ولأجل ذلك أصبحت هناك مقاييس ومصطلحات تبدأ من «النحافة»، ثم «الرشاقة»، وتتلوها «زيادة الوزن»، مروراً بمصطلح «السمنة»، وانتهاء بمصطلح «السمنة المفرطة». ولمّا كانت الحالتان الأخيرتان مؤشرين على وضع صحي غير مريح للإنسان، أو خطير إذا ترافق مع أوضاع صحية سلبية أخرى، فقد اهتمت به المؤسسات الصحية والأطباء وأغلب أصحاب الشأن أنفسهم، لتفادي التردي في الحالة الصحية، وربما الموت في نهاية الأمر. لكن على مستوى أذهان البشر الفردية أو الجمعية لا نكاد نجد أياً من هذه التصنيفات، أو الاهتمام المؤسسي أو حتى الفردي لدى شرائح واسعة من المجتمعات، بل إن القبول بالوضع الفكري في مجتمع ما، أو في بعض بيئاته، يكاد يكون من الأمور المسلّمة، التي لا تثير كثيراً من القلق لدى أفراده أو قادة الرأي فيه. فوجود الزيادة غير المفيدة في اتجاه معين من الفكر المجتمعي، وهو ما سميته في عنوان المقالة «الترهل الفكري»، مساوٍ تقريباً لحالات الزيادة في الأبدان من الشحوم والعناصر غير الضرورية، مما يجعلها ضارة لبدن الفرد. وكذلك الأمر في ترهل الفكر، عندما لا تتم مراجعة وضعه باستمرار، والعناية بتوافقه مع المنطق والمقاييس العقلية البشرية المتراكمة في حضارات الإنسان المتعاقبة. فما الذي يمكن أن يسبب مثل تلك الترهلات في فكر جماعة ما، أو يجعله منهج تعامل جمعي مع الأمور المادية أو المعنوية في أي ثقافة بشرية على مر التاريخ؟ في الواقع أنه لا توجد وصفة واحدة ينشأ عنها الترهل الفكري في كل مجتمع بشري، لكنه توجد مؤشرات إذا لم يلتزم بها المجتمع، ولم يعن بها القائمون على الفكر، ورموز الثقافة فيه، فإنها تؤدي إلى هيمنة تلك الزوائد غير الضرورية على قشرة الثقافة العليا. ومع توزعها في أكثر من مجال، فإن مقاومتها أو حتى اكتشافها يصبح من أصعب الأمور على أصحاب الثقافة أنفسهم، كما أن التمسك بها وتغذيتها يصبح هدفاً لأصحاب المصالح الذاتية من ذوي اللعب على الحبال القصيرة، ودغدغة عواطف العامة بترديد تلك الحويصلات على سطح الثقافة. وأقوى تلك المؤشرات أثراً هو سيطرة الفكر التقليدي الداعي إلى الركود دائماً؛ فهو يساعد على تكوّن البحيرات الراكدة، التي تنشأ فيها الطحالب، وتكاد تنعدم فيها رؤية أعماق المياه. كما تتلوها قوة أحادية التفكير الجمعي، إذ ان تعدد الآراء، وتقابل التيارات الفكرية المتقاربة في القوة، يجعل الأفكار المتقابلة تمحص نفسها، ويؤدي إلى نظر كل تيار إلى رؤى الآخر من الخارج. أما نتائج الترهل الفكري، فهي كارثية على المجتمع من جهة، وعلى الجنس البشري كذلك من جهة أخرى. ولكي نذكر أمثلة لما تؤدي إليه الحالات المتقدمة منها، يكفي أن نورد مثالاً من طريقة التفكير الجمعي في نظام القذافي، عندما كانت المطالبات الشعبية بإيجاد دستور للبلاد، فكان رده: «ما هو مشكلة، إذا كان عشان نكتبو دستور، تفاهموا مع سيف الإسلام.. هو يفهم في هالأمور» (ظناً منه أن الدستور مجرد صف كلمات، ولا يستدعي اهتمام القائد)، ومنها مقولة أحد الدعاة المعاصرين عن الجهاد: «وما المشكلة؟ يموت ثلث الشعب عشان يحيى الثلثان بكرامة!»، فهي أوهام تكوّن أنساقاً.