يتميز الإنسان عن باقي المخلوقات بالقدرة على تصور الأشياء غير الحاضرة أمامه، وبناء على المعلومات والوصف يستطيع أن يشكِّل في ذهنه قدراً معتبراً من موقف ما ويستخلص نتائج تساعده في رؤية هذا الموقف الذي لم يشهده. وفي القرآن الكريم تشبيهات يغلب عليها التصوير الحسي الذي يجعل المشهد المحسوس حياً متحركاً وبارزاً مشخصاً. هذا ما سنتحدث عنه في حلقات من خلال دراسات وتفاسير وآراء لعدد من علماء علوم القرآن. إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا.. (الأحزاب: 10-11) تصف الآيتان الكريمتان مشهداً مفزعاً حدث في غزوة الأحزاب، جعل العيون تنظر في كل مكان تترقب وقوع حدث كبير، والقلوب تكاد تصعد إلى الحناجر من شدة اضطرابها، والظنون تذهب بالعقول إلى ما هو أسوأ.. فقد هدأت الجزيرة العربية بعد الحروب والبعوث التي استغرقت أكثر من سنة كاملة، إلا أن اليهود، الذين كانوا قد ذاقوا ألواناً من الذلة والهوان نتيجة غدرهم وخيانتهم ومؤامراتهم ودسائسهم، لم يفيقوا من غيهم ولم يستكينوا، ولم يتعظوا بما أصابهم نتيجة الغدر والتآمر- كما يقول المباركفوري في (الرحيق المختوم)- فهم بعد نفيهم إلى خيبر ظلوا ينتظرون ما يحل بالمسلمين من خلال المناوشات التي كانت قائمة بين المسلمين والوثنيين، ولما تحول مجرى الأيام لصالح المسلمين، وتوطد سلطانهم ـ تحرق هؤلاء اليهود أي تحرق.. وشرعوا في التآمر من جديد على المسلمين، وأخذوا يعدون العدة، لتصويب ضربة إلى المسلمين تكون قاتلة لا حياة بعدها. تعبير قرآني فريد يقول د. عبد الله بن سليم الرشيد، رئيس قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض، هاتان الآيتان ضرب من التعبير القرآني الفريد متضمناً ذكر ما لقيه المؤمنون من الشدة والجهد في غزوة الأحزاب لنجد أنفسنا أمام مشهد عصيب قاسى المسلمون الأوائل شدائده، وقد أسهمت الصورة الفنية في نقله وتشخيصه، وفي جعل القارئ يعيش فيه بشعوره وإحساسه وإن لم يشهده، ففي (زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) تصوير مهول لذلك الفزع والخوف الذي ألجم الأفواه، والعادة أن لسان الخائف ينعقد دهشة ورعباً، فيفقد القدرة على الكلام، فكأنما صعدت القلوب حقيقة إلى أعلى مجرى التنفـس فسدته. وعلق الشيخ محمد متولي الشعراوي في تفسيره على الحالة النفسية التي كان عليها المؤمنون، والتي وصفها القرآن وصفاً دقيقاً رائعاً ليرسم صورة حية يعيشها كل من يقرأ الآيات بقلبه، فيقول: معلوم أن الحنجرة أعلى القصبة الهوائية في هذا التجويف المعروف، فكيف تبلغ القلوب الحناجر؟ هذا أثر آخر من آثار الهول والفزع، فحين يفزع الإنسان يضطرب في ذاته، وتزداد دقات قلبه، وتنشط حركة التنفس، حتى ليخيل للإنسان من شدة ضربات قلبه أن قلبه سينخلع من مكانه، ونلحظ في هاتين الآيتين أن الحق - سبحانه - لا يكتفي بأن يحكي له ما حدث، إنما يجعله - صلى الله عليه وسلم - يستحضر الصورة، فيقول له: اذكر إذ حدث كذا وكذا. مشهد مروع إنها صورة الهول الذي روع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها، وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب، من أعلاها ومن أسفلها، فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج، ومن ثم كان الابتلاء كاملاً والامتحان دقيقاً، وكان التمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردد فيه، وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته، وكل حركاته، ماثلاً أمامنا كأننا نراه من خلال هذا النص القصير، ننظر فنرى الموقف من خارجه: إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ.. ثم ننظر فنرى أثر الموقف في النفوس: زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.. وهو تعبير مصور لحالة الخوف والكربة والضيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب، ثم تزيد سمات الموقف بروزاً، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً: هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا، والهول الذي يزلزل المؤمنين لابد أن يكون هولاً مروعاً، قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهاراً، وكان المشركون يتناوبون بينهم، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفاً شديداً. الله قد كفاه ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع فيقول: ثم وافى المشركون سحراً، وعبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوى من الليل، وما يقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم، وما قدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء، فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله ما صلينا! فيقول: ولا أنا.. والله ما صليت! حتى كشف الله المشركين، ورجع كل من الفريقين إلى منزله. وبعد هذا المشهد المهيب يأتي الفرج من عند الله تعالى فيرسل ريحاً عظيمة تقتلع خيام الأحزاب ويولوا راجعين، وقد روى البيهقي في الدلائل عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا، فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهى ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه، ويذهب حذيفة ليأتي بخبر القوم بعد تكليف رسول الله له، فيعلم أن الريح قد اقتلعت خيامهم وأنهم هموا راجعين، وفي الطريق يلقى حذيفة عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه.