دعتني السفارة الأمريكية قبل سنوات إلى لقاء مع بروفيسور أمريكي في العلوم السياسية، حرمتني الذاكرة من استدعاء اسمه، لكنني ما زلت أذكر أنه استهل كلامه على طريقة الأمريكيين بقفشات تخطف الأبصار، لكنها لا تلهم العقول إلا في النادر، قال الرجل: «إنني أستطيع بالتأكيد أن أفهم كل ما أراه.. لكنني لا أرى سوى قليلاً»، تذكرت تلك المقولة، وأنا أتابع المشهد في سوريا، كل منّا يتصور أنه يرى، وأغلبنا يظن أنه يفهم ما يرى، لكن الحقيقة أن أيًا منّا لا يرى سوى ما تسمح له إمكانياته المحدودة برؤيته، ولا يفهم إلا بمقدار ما سمحت له به أدوات الرؤية. أكثر مشكلات المنطقة تعقيداً، سببها الحقيقي أن أطرافها لا يَرَوْن الصورة كاملة، بل إن بعضهم لا يرى حتى نصف الصورة، أو طرفاً منها، أما مشكلة المشكلات فتكمن في ما بعد الرؤية، أي في مرحلة قراءة الصور، وتحليلها، واستخلاص النتائج منها. والمعضلة في ظني لا تقف عن حدود إمكانية امتلاك تقنيات الرؤية، عن بعد، ولا في مهارات قراءة الخرائط الكبرى، وإنما يغيب عن جميع القوى الإقليمية، منهج وأدوات صناعة السياسة في إطار رؤية تستوعب العالم قبل الإقليم، والمنطقة قبل أوطانها. عقب حرب تحرير الكويت مطلع التسعينيات، بدا أن العالم قد سلّم قيادته للولايات المتحدة، التي فوجئت بانهيار الاتحاد السوفييتي، وراحت تحاول مع إدارة بيل كلينتون الشابة، السيطرة على تداعيات سقوط عدوها اللدود، لضمان عدم سقوط أسراره العلمية، وأسلحته النووية، في قبضة جماعات منفلتة، أو قوى غير مسؤولة. وفي ظني فقد نجحت إدارة كلينتون آنذاك، في إدارة واحدة من أحرج لحظات النظام الدولي الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية. كان بيل كلينتون هو أول رئيس للولايات المتحدة مولود بعد نهاية الحرب الثانية، ومؤهل من ثم للتعاطي مع عالم جديد لا تحكمه تعقيدات الحرب الباردة، وتنفرد فيه الولايات المتحدة دون شريك، بزعامة نظام دولي جديد، تملك وحدها القدرة على إرساء قواعده، لكن هذا الانفراد بالزعامة الذي تمنَّى كلينتون أن يدوم مائة عام، سرعان ما واجه تحديات، تعهد خلفاء كلينتون (الجمهوري جورج دبليو بوش، والديموقراطي باراك أوباما) بالتغلب عليها، ورفعا معاً شعاراً واحداً، كان بوش الأب قد رفعه إبان حرب تحرير الكويت «we will prevail» (سوف نسود) سنوات بوش الابن وأوباما، جعلت أمريكا أقل حصانة، وأكثر عرضة للخطر، ما استدعى بدوره مراجعة في العمق لإستراتيجيات القوى العظمى التي لم تعد وحيدة، قادت تلك المراجعة إلى المشهد الذي نراه اليوم في سوريا وفي ليبيا وفي العراق، حيث تعود واشنطن إلى الاشتباك مع القضايا على الأرض، غير مكتفية بمراقبتها والتأثير فيها من السماء. أمريكا لا تكتفي برؤية المشهد الإقليمي ولا بتصويره من الفضاء، إنها تصنعه الآن على الأرض في سوريا، وفي ليبيا، مستعينة بمعادلات جديدة للقوة، تقلِّص انتشار جنودها على الأرض عند أدنى مستوى ممكن، وكذلك الروس الذين يختارون معاركهم بعناية، بينما يتركون لحلفائهم في دمشق وطهران، مهاماً قتالية تليق بالبروليتاريا، التي تعرف كيف تكدح، لكنها لا تعرف لماذا تكدح. أوراق الأطراف الإقليمية في الأزمة السورية، واضحة ومكشوفة للجميع، تتحدث عناوينها عن جمل من نوع محاربة الاٍرهاب، أو العمل من أجل ضمان وحدة سوريا وسلامة أراضيها، كل الأطراف إقليمية ودولية تطرح ذات الأهداف وتحارب تحت ذات العناوين، أما تأويل تلك الأهداف، وتأهيل الأدوات اللازمة لإنجازها طبقاً لمعايير الكبار، فمسألة تُقدِّرها واشنطن وموسكو كل بحسب مصالحها في الصراع وغاياتها الحقيقية من ورائه. في العلاقات الدولية، كما في الدراما البوليسية، هناك قواعد حاكمة للعب مع الكبار، أهمها أن تدرك الأطراف المحلية أو الإقليمية أن أهدافها النهائية ليست سوى إحدى محطات الكبار في الطريق إلى الكنز فوق خارطته الكبرى التي لا يطلع عليها أحد. moneammostafa@gmail.com