لا يستحق البوركيني كل هذه الضجة في فرنسا. لباس بحر «محتشم» ترتديه فتيات أو نسوة ملتزمات إسلامياً على الشواطئ هو أقل «فضائحية» من التعري النصفي أو «التوبلس» الذي يجتاح شواطئ أوروبا وأميركا. بل هو أقل مأسوية من منظر النسوة والفتيات اللواتي يحملهن الموج بملابسهن بعدما غرقن خلال هروبهن عبر البحر من جحيم الحروب في بلدانهن. لباس امرأة ملتصق بجسدها وهي تطفو على الماء ميتة يصدم العين أكثر مما يصدمها لباس البوركيني ترتديه امرأة محافظة شاءت أن تخرج إلى الشمس والبحر. لكنّ المرأة التي ماتت غرقاً هي خارج موجة «الإسلاموفوبيا» أو «الخوف من الإسلام» التي ما برحت تضرب شواطئ العقول الفرنسية. قد يكون «البوركيني» غريباً جداً عن ذائقة الفرنسيين ومستهجناً لديهم، وهو أصلاً ليس باللباس الجميل، ولكن ما علاقة هذا اللباس بقضايا مثل الحرية والعلمانية والنظام العام؟ هل يتحمل لباس المرأة المحتشمة تبعة هذه الحملة التي تعم فرنسا مثيرة سجالاً هو سياسي في جوهره؟ وقد مضى بعضهم في وصف البوركيني بـ «لباس البحر الإسلامي» وكأنه زي بحري مفروض إسلامياً مثل الحجاب. مع أن ليس من لباس بحر مسيحي أو يهودي أو بوذي... وهذا الاسم الغريب البوركيني كانت اشتقته في العام 2004 شابة أوسترالية مسلمة من أصول لبنانية تدعى أحيدة زانيتي، من كلمتي «برقع» و»بكيني» وأطلقته على لباس بحر صممته للمرأة التي يمنعها حجابها من ارتياد الشواطئ والسباحة في الماء. هذه الشابة أصبحت خلال الأيام الأخيرة نجمة الإعلام الغربي بعد الحوارات التي أجريت معها عقب الضجة التي قامت حول البوركيني. ومما قالت إنها لم تصمم هذا اللباس في هدف سياسي بل لتتيح للمرأة المحجبة وسواها، الفرصة لممارسة السباحة والرياضة بحرية. وأشارت إلى أنّ نحو ثلاثين في المئة من النسوة اللواتي أقبلن على شراء البوركيني هن غير مسلمات ومنهن ذوات تشوهات في أجسادهن يردن أن يخفينها. غير أن ما يدعو إلى الاستغراب هو أن تواجه الدولة الفرنسية أمر البوركيني بمثل هذه الجدية والحذر وكأنه خطر محدق ببلادها وشعبها. وبدا فعلاً مستهجناً الموقف السلبي «المهول» لرئيس الحكومة مانويل فالس ووزيرة حقوق المرأة لورانس روسينيول. وليت الوزيرة المعنية بحقوق المرأة تدرك أن موقفها السلبي هذا هو ضد المرأة المحافظة والمحجبة والمهمشة بل يؤيد بقاءها في البيت، بينما يحق لها أن تتمتع بالهواء والشمس والماء. بالغ المعترضون في فرنسا، رسمياً وشعبياً، على البوركيني، وحمّلوا قضيته ما لا تحتمله أصلاً. فهو لا يستحق مثل هذا السجال الذي دار حول مقولات لا علاقة للبوركيني بها. هل هذا اللباس هو حقاً «ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع» كما صرح رئيس الحكومة؟ هل هو عائق أمام تقدم العلمانية والحداثة و»استتباب النظام العام»؟ أما ذروة موجة الاحتجاج فتمثلت في الدعوة التي وجّهت إلى الجمهورية الفرنسية للدفاع عن نفسها في مواجهة البوركيني وما يحمل من استفزاز. الصحافة الغربية لم تغفر لفرنسا حال الجنون والهوس والعداء الناجمة عن انتشار ظاهرة البوركيني في المدن الشاطئية. جريدة الغارديان البريطانية كتبت: «هذا المنع هو ضرب من الغباء». وكتبت زميلتها التلغراف: «النسوة اللواتي يرتدين البوركيني لسن هن الأعداء الحقيقيون للحرية، بل السياسات التي تريد منعه». أما النيويورك تايمز فاتهمت الفرنسيين بـ «تجريم الاحتشام» وكتبت في الصفحة الأولى: «فرنسا تحدد آخر تهديد لأمنها: البوركيني». أما صحيفة «سودوتش زيتونغ» الألمانية فاختصرت القضية قائلة: «منع لباس البوركيني لا يعني تحرير المرأة والدفاع عن العلمانية، بل يعني: نحن لا نريدكم هنا». واللافت أن مدناً عدة في إيطاليا والنمسا وسويسرا وألمانيا بدأت تتململ من البوركيني وتدعو إلى منعه. إنها موجة «الإسلاموفوبيا» بل «الهجوم الإسلاموفوبي» كما ورد في موقع «ليزيكو» الفرنسي، وهو يعبر عن «نقص في الثقة بالذات». من كان يتصور أن الخوف من الأصولية والتكفيرية يمكن أن يشمل حرية نسوة أردن ارتداء البوركيني لئلا يبقين أسيرات المنازل؟ روائياً بدت الزميلة في «الحياة» مايا الحاج سباقة في استيحاء البوركيني في روايتها الجميلة التي تحمل الاسم نفسه «بوركيني» (منشورات ضفاف والاختلاف 2014)، وجعلت بطلتها الرسامة المحجبة تعاني حالاً من الصراع الداخلي بين ملابسها المحتشمة وأفكارها المتحررة. وفي نظر هذه البطلة إما البكيني في مسابح النساء أو لا نزول في الماء. وتعرب عن رفضها للبوركيني الذي يفسد معنى السباحة ويمنع جسدها من التمتع بالماء، وبحباته التي تتلألأ على جسدها. مايا الحاج هي أول من كتب رواية عن البوركيني في ما يشبه الحدس، الحدس الروائي السباق.