×
محافظة المنطقة الشرقية

إحباط تفجير مسجد الرسول الأعظم في أم الحمام بـ #القطيف

صورة الخبر

لم يكن حُبي للفيزياء بسبب قوانين نيوتن أو شهرةِ أينشتاين، بل كان بسبب مُدرس المادة في مدرسة الخطيب الإعدادية. هناك وبالقربِ من ملويةِ سامراء وأسوارها الحسناء، كنت أقضي وقتي هارباً من بعض الدروس. إلا أني أحرص على الحضور في كل حصة للفيزياء، أتطلعُ لمعرفة ظاهرة أو تجربة جديدة.. كان الأستاذ مجيد مدرس المادة ينتهج أسلوب السهل الممتنع والتجارب العملية في توصيل المعلومة. ما زالت ذاكرتي تحتفظ ببعض كلماته التي كان دائماً يرددها حيث يقول "لا يمكننا الوصول إلى الحقيقة إلا عن طريق البرهان أو التجربة، ولا يمكن للنظرية أن تحل محل القانون". أكملتُ مرحلة الإعدادية وحصلت على أعلى درجة في مادة الفيزياء، وعلى معدل يؤهلني لدخول كلية العلوم ودراسة الاختصاص الذي لطالما حلمت به. بكت أقلامي وتبددت أحلامي في ليلة دخول الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003تغيرت القوانين وأصبح القانون هو اللاقانون، حالة من العشوائية، الترقب، والغموض خيمت على بلاد الرافدين. لم يوافق والدي أن أكمل دراستي خارج مدينتي، سامراء. في تلك السنة المشؤمة وجدت نفسي طالباً في كلية التربية قسم علوم الحياة. يا لحظي العاثر!.. قلت في نفسي وأنا في أول محاضرة (مدخل إلى علم الخلية) ما الذي أفعله هنا؟ هل هذا الذي حلمت به؟ كيف ستنقضي هذه السنوات؟ ولكي أتجنب الملل من المحاضرات اخترتُ لنفسي مقعداً في آخر القاعة، أُمارس هوايتي في تعلم خط الرقعة. استمر الحال على ما هو عليه، واقتربت امتحانات الفصل الأول، وأنا لا أزال شارد الذهن مسلوب الإرادة، كثير اللامبالاة. ظهرت نتائج الامتحانات، لم تكن هناك أي مفاجآت فدرجاتي ضعيفة ولم أتمكن من النجاح إلا في بعض المواد غير الأساسية. لم يكن لدي أي حافز أو سبب يجعلني أغير من قناعتي، على الرغم من نصائح بعض الأساتذة والتي تحث على الالتزام بالزي الموحد، والمواظبة على الحضور، ومحاولة التعويض في الاختبارات القادمة. وفي أحد الأيام دخلت القاعة الدراسية فوجدت زملائي في حالة ذعر ورهبة، تبين لي أنه لدينا امتحان، امتحان؟! متى؟ ليس لدي علم. أجابني أحد الزملاء لأنك كنت غائباً في آخر محاضرتين، ألقيت اللوم على زملائي بعدم إخباري، وفي هذه الأثناء دخل الأستاذ وبدأ بتوزيع الأسئلة، وقال لديكم ساعة لإكمال الأجوبة. لكني لم أحتج سوى لدقيقة واحدة كانت كافية لكتابة اسمي على الورقة، سلمت الورقة للأستاذ وخرجتُ من الجامعة. بعدها بأسبوع، وفي نهاية المحاضرة، أخرج الأستاذ الأوراق وقد وضع عليها الدرجات،تسلَّم الطلاب أوراقهم وبقيت ورقتي بيد الأستاذ يلوح بها في الأفق، من هو سعد صبار؟ رفعت يدي وقلت نعم، أنا.. أعطاني الورقة وكانت النتيجة كما توقعت هي (صفر)، لم يكتفِ الأستاذ بتسليم النتيجة المحبطة، بل أتبعها بسيل من الكلام الجارح والنصائح أمام الجميع، قال لي" أنت لا تصلح أن تكون طالباً، اذهب وابحث عن عمل يناسب عقلك. هذا مكان للعلم". لم يكن موقفاً سهلاً، تظاهرت بعدم الاهتمام، إلا أن ملامح وجهي الغاضب كانت أوضح. هنا كانت نقطة التحول، هذه الكلمات القاسية لعبت دور الإنزيمات المحفزة التي ساعدت في إشعال روح التحدي. قررت أن أتغير، أن أدرس وأنجح ليس حباً بالمنهج الدراسي، لكن لأثبت لذلك الأستاذ أني طالب ويمكن أن أنجح. تطلب الأمر جهداً مضاعفاً بسبب الدرجات الضعيفة والواجبات المتراكمة. تمكنت من النجاح وواصلت بنفس الإصرار والتحدي بقية المراحل. لم أعد أتقبل الفشل والمواقف المحرجة. أكملت دراسة البكلوريوس بمعدل جيد جداً والثالث على الدفعة. عملت معيداً في نفس الكلية لفترة قصيرة، لم أتحمل البقاء طويلاً، كنت ابحث عن فرصة كي أكمل التحدي وأدرس الماجستير. سافرت إلى الهند وأكملت دراسة الماجستير في علم الأحياء المجهرية وتخرجت بمعدل جيد جداً. كانت تجربة رائعة تعلمت فيها الكثير. أحببت مدينة حيدر آباد والبرياني الشهير، ومنارة جارمنار، والمسجد الجامع. أصبح طموحي كحصان جامح، يبحث عن ميدان جديد ليكمل سباق آخر. سافرت إلى ماليزيا، جزيرة بينانك، وفي جامعة العلوم الماليزية بدأت رحلة الدكتوراه في موضوع لطالما حلمت به واستهواني (علم دراسة البروتينات والجينات). وبعد مرور سنة من البحث المتواصل حدث منعرج أجبرني على تغير المشرف والاختصاص. قال لي المشرف: الموضوع معقد ولا أستطيع أن أرى نقطة النهاية لهذا المشروع، وأنه لا توجد فائدة من المواصلة. أصبح لإرادتي مناعة قوية ضد فايروسات اليأس. بدأت من جديد، هذه المرة مع علم الأورام السرطانية.. وهنا كانت نقطة التحول الثانية في مسيرتي، هنا وقعت في حب هذا المجال وأبحرت في أعماقه. أكملت دراسة الدكتوراه في علم الأورام، وأصبحت محرراً في عدة مجلات علمية في هذا المجال. نشرت العديد من الأبحاث وشاركت في الكثير من المؤتمرات، وحصلت على عدة جوائز.. كان أهمها الجائزة الذهبية في معرض الاختراعات في العاصمة الماليزية في العام الماضي وحصولي على براءة اختراع لمنتج يعالج الجروح بطريقة فعالة. هذا المنتج كان نقطة النهاية لمشروعي الأول (الفاشل)، موضوع البروتينات المعقد هو الذي أوصلني لمنصة التتويج.. كلمات الأستاذ القاسية "أنت لا تصلح أن تكون طالباً"هي ما أضاءت طريقي ورسمت مجال تخصصي. أدركت أن كلام الناس ليس إلا نظريات يمكن أن تُدحض بتجارب النجاح، وأيقنت أن في داخل كل شخص جينات للتحدي والتميز تحتاج إلى إنزيمات محفزة لتطلق شرارة الإبداع وتتأقلم مع قوانين التغير المفاجئة. سعد صبار: باحث في علم الأورام السرطانية، حاصل على شهادة الدكتوراه. أعمل في جامعة العلوم الماليزية. محرر في عدة مجلات علمية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.