الجنادرية لم تعد مهرجاناً فحسب، بل صارت حدثاً مهماً، وتكرار ما كتب ونشر وقيل عنها يأتي في سياق المعنى لهذه التظاهرة الثقافية والتراثية، وهذا العام تحول المهرجان إلى حدث حين يفتتحه سمو ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، ويأتي التواجد الكبير للحضور إعطاء الواقع المشاهَد كما هو، أي أن الصور النمطية التي أشاعت أن المملكة بئر بترولية، ومستهلك مبذر جاهل، روجته عوامل سياسية بحتة، بل إن المملكة تاريخ وحضارة ووجود عالمي، ولعل من يرون نصف الكأس، أن يدركوا أن بناء الإنسان في هذا البلد يسابق معظم الدول عندما انتشر التعليم وصارت المدارس والمعاهد والجامعات والبعوث لجميع بقاع العالم، المعادلة الصحيحة في تنامي جيل يسابق الزمن في كسب المعرفة، ومدن وجامعات وتنمية اجتماعية وصناعية، أصبحت مصدراً مهماً في مزج التاريخ بالحياة المعاصرة، وهو أسلوب ورؤية مشاهدان لكل من يزور هذا الوطن. وإذا كان المهرجان احتفالاً تلقائياً ونموذجياً في طروحاته الثقافية والسياسية ودورة الحياة الكونية، فإن حضور هذه الحشود والتقاءها بعينات من المجتمع السعودي يأتي بدون «بروتوكولات» أو كسب دعاية خاصة، لأن الأهداف حُددت بمفهوم من يتحاور ومع من، وما هي الأهداف التي نلتقي أو نختلف عليها، دون مجاملات أو أحكام مسبقة على أي موضوع على جدول الأعمال.. الهمّ الثقافي يأتي في البند الأول، وإن كانت السياسة محوراً آخر؛ لأن منطقتنا التي تعيش حياة اضطراب على مدى نصف قرن، تحتاج لوعي نخبها الحاضرة كشهود وفاعلين في التغيير، وقد عشنا حياة البعد الواحد، والنمطية السلوكية التي قسمتنا إلى أنماط وأشكال حسب الأيديولوجيات التي أغلقت علينا باب الحوار والفهم المشترك، لإرساء مفاهيم أخرى لا تقبل بالآخر كشريك، بل كخصم طالما البيئة والتاريخ المشترك والأرومة الواحدة هي جذر هذه الأمة الواحدة، ومحيطها الإسلامي الكبير الذي لا نستطيع تجزئته أو الخلاف عليه.. لا نريد أن يكون للحضور أداء دور الضيف فقط، وإنما معرفة لمن نتوجه بفكرنا وتصورنا عن حاضرنا ومستقبلنا؛ لأن كل الفلسفات والطروحات التي أقامها مفكرو العالم هي التي ظلت منطلق النهضة لأي أمة، ونحن في المملكة لا نريد خصومة مع أحد، لكننا سنكون غير محايدين حين يُرتهن شعب لسلطة تقتله كما يجري في سورية، أو مسلمون يمارَس عليهم فصل عنصري، عرقي وديني، يذهب إلى حد إبادتهم، لأن الحق الطبيعي لكل إنسان هو أن يكون حراً بلا قيود أو قوالب تختم صبّه في اتجاه واحد.. فالمملكة، وبدون مبالغة أو مجاملة، سعت لأن تكون بيت العرب، وأن يكون مهرجان الجنادرية، برمزيته، يمثل دور الحلقة الجامعة لهذه الأمة ومسلميها، وحتى أصحاب الأديان وأتباعها طالما الجميع يجمعهم معنى الإنسانية المفتوحة وليست المغلقة على مذهب أو قومية أو دين، ولعل من بين المدعوين من يمثل فكره وذاته وليس هويته أو أصله، وهذا يؤكد معنى هذا المهرجان وهدفه، ولقاءاته المفتوحة.. ومثلما غيّرت الأحداث الكون كله، فإن المطلب أن تتغير أمتنا العربية إلى مبدأ التعايش كحق طبيعي لكل إنسان، وأن نبدأ بالخطوة الأولى لرسم أولى خطواتنا في حياة كريمة لا وجود لخلافات فيها لنحقق معنى "كنتم خير أمة أُخرجت للناس"