تتربص دوائر الاستخبارات الدولية تحت اسم «مؤسسات المجتمع المدني» وما يشبهها ويسير في اتجاهها مدعومة بأطماع دولة إقليمية بمنطقتنا العربية شرا؛ وقد اشتعلت المنطقة بالفوضى باسم دعاوى العدالة والحقوق ومكافحة الفقر والاستبداد، ووجدت دعوات وشعارات التنظيمات السرية المستقطبة من سفارات دول أجنبية في عديد من الدول العربية التي اشتعلت فيها الحرائق آذانا صاغية وقلوبا مفتوحة من المأزومين والمحرومين والمظلومين والمهمشين والعاطلين والناقمين؛ فكانوا وقودا لإحراق بلدانهم وخرابها ودخولها إلى مرحلة مظلمة لا بصيص فيها لأمل قريب بعودة الحياة من جديد، وحتى لو انطفأت الفتن التي اشتعلت فيها وذابت الفرق والجماعات والأحزاب والتيارات المتحاربة المتصارعة؛ فإن تلك البلدان التي هدمت مدنها وخربت مؤسساتها وأوقفت معامل الإنتاج فيها وشرد مواطنوها وماتت الحياة فيها؛ كالعراق وسوريا وليبيا واليمن ومصر لن تعود سريعا ولن يعوض ما فقد أو تهدم من بشر أو حجر، فمن مات لن يعود إلى الحياة، وما اندثر وسوي بالأرض من مؤسسات ومصانع وأبنية ووسائل خدمات لن تنهض من جديد وتعود كما كانت إلا بعد عقود طويلة من الزمن. ويرد إلى خاطري في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات المتأملة المتألمة تساؤل بيزنطي « هل الدجاجة قبل البيضة أم البيضة قبل الدجاجة؟ « هل الاستبداد والاضطهاد والبطالة والفقر وفقدان العدالة الاجتماعية هي السبب في ثورة شعوب تلك البلدان؟ أم أن الشعوب نفسها هي التي لم تحسن معالجة أزماتها بالطريقة العقلانية المناسبة واستسلمت لتجييش وتحريض عملاء السفارات الأجنبية باسم « مؤسسات المجتمع المدني « وذلك بغية تثوير المنطقة العربية؛ لا رغبة في إصلاح فساد أو قضاء على دكتاتوريات ومساعدة شعوب عربية على خلق واقع سياسي واجتماعي جديد؛ بل للوصول إلى أهداف بعيدة جدا عن إدراك الشعوب العربية المتعلقة بأحلام التغيير إلى الأفضل؛ وهي « تمزيق خارطة الأوطان العربية وتفتيت دولها وتقسيمها « بإدخالها إلى فوضى عارمة مشتعلة تقوم على صراع مستديم بين الشعوب وأنظمة الحكم، وبين الطوائف والأقليات والقبليات والأقاليم. لم تكن الشعوب العربية سعيدة كل السعادة تحت حكم الأنظمة السياسية العسكرية المستبدة قبل الثورات التي اشتعلت أواخر عام 2011م ولكنها أصبحت بلا شك أكثر تعاسة وشقاء واضطهادا وفقرا وحاجة إلى الأمن ومقومات الحياة أكثر من معاناتها واحتياجها وفقرها وشكواها من الاستبداد والظلم قبل الثورات! إذاً كانت الشعوب العربية الثائرة والأنظمة السياسية الحاكمة نتيجة لجملة أسباب استغلت من جهات دولية وإقليمية؛ لتقع الشعوب والأنظمة معاً في فخ استغلال الصراع، ومن ثم تطويره وتصعيده إلى حده الأعلى، بحيث يفتح ثغرات مناسبة للتدخل الدولي الأجنبي والإقليمي؛ كما هو حادث الآن في الدول الأربع. ويرد تساؤل آخر غير بيزنطي: هل الشعوب التي ثارت وأوردت نفسها وبلدانها إلى هذه المصاير المهلكة المدمرة على حق أم على ضلال؟ وهل الأنظمة السياسية التي قامت عليها الثورات كانت الأصلح والأفضل لقيادة تلك الشعوب، أو على الأقل الأفضل والآمن والأكثر حفاظا على مصالح تلك البلدان وشعوبها مما حدث بعد الثورات؟! الحق أن النتيجة سبب، والسبب نتيجة؛ فكلا الطرفين مسئولان عما حدث، أما العدو المتربص الذي ينتظر الفرص لتنفيذ خططه النائمة في أدراج مؤسساته البحثية ومجالسه الاستشارية الدولية فكان هو الغائب حينها عن المشهد الشعبي العام، وربما حتى عن يقظة حكام تلك البلدان. والخلاصة من هذا التأمل: أن سعي أي نظام سياسي إلى تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية؛ بنجاحه في بناء تنمية حضارية مدنية تسهم في توفير بنى تعليمية وصحية وخدمية وأمنية سليمة، ومقاومة أسباب البطالة والفقر سيسهم سعي هذا النظام أو ذاك في إرساء مفهومات انتماء وطني حقيقي لدى أي شعب من الشعوب ويدعوه إلى التمسك بنظامه السياسي والدفاع عن منجزاته وأمنه ورخائه ونمط حياته المستقر باستماتة واندفاع وتضحية وطنية خالصة. أما حين يهيئ أي نظام سياسي بغبائه وغطرسته واستبداده وشعوره بتملك أسباب القوة البيئةَ المناسبةَ الصالحةَ لتكون مشاعر النقمة والنفور والكراهية، كما حدث إبان حكم صدام حسين ومعمر القذافي وزين العابدين بن علي وحسني مبارك، ويحدث الآن في ظل ما بقي من سيطرة جزئية لبشار الأسد على سوريا أو لعلي عبد الله صالح في اليمن؛ فإنه يحفر قبره بيديه! ونستفيد درسا واقعيا مما حدث ويحدث من حولنا في خارطتنا العربية المشتعلة: العدالة الاجتماعية والرفق بالشعوب وعدم إرهاقها بمتطلبات العيش وتحقيق تنمية حضارية شاملة وبناء جيش وطني قوي والوعي بمكايد الأعداء؛ كل ذلك كفيل بحماية أي وطن من الفوضى والخراب والتفتت والفناء والسقوط في وحل الانقسام والحزبية والتيارات وصراع الطوائف. نقلا عن الجزيرة