يُعرف العنف كفعل شديد وقاس لأخذ شيء ما، ويُلحق بالطرف الضعيف ضرراً مادياً ونفسياً. وهذا ما يجعل من جميع الأعمال العسكرية كالحروب بين الدول وحروب التحرير أو الاستقلال أو الانتفاضات الشعبية العسكرية تصنف كأعمال عنيفة دون النظر في من يقوم بها أو من هي الأطراف المشتركة فيها. وهناك كثير من الوقائع التاريخية التي تثبت أن العنف شكلٌ لعديد من الشعوب القاطرة، التي اجتازت به محطات تاريخية ومصيرية وتخطت فيها عوائق مختلفة في مسارها الذي قادها إلى ما عليه الآن. ولكن ضمن أعمال العنف نضع أيضاً الإرهاب كقتل المدنيين والاغتيالات السياسية والتخريب وخطف وسائل المواصلات وغيرها، التي تقوم بها منظمة أو أفراد بقصد الإخلال بأمن الدولة أو تغيير نظام الحكم وتحقيق أهداف سياسية عامة أو خاصة، إلا أنه يختلف عن الأعمال العسكرية الأخرى في شكل العمل العنفي وفي جوهر الأهداف التي تقف وراءه. والإرهاب كفعل عنفي ليس بالفعل الجنائي الحديث، فقد عرفه الأقدمون من قبل، إلا أنه يختلف عن الإرهاب المعاصر بأنه كان ينحصر بشكل خاص في تصفية الحكام أو القادة المستقبليين من قبل خصومهم المنافسين لهم أو المختلفين معهم عقائدياً أو الطامعين في كراسيهم. ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن معظم هذه الأعمال لم تكن في كثير من الأحيان تلقى استحساناً من قبل أغلبية الناس، بل يرون فيها عملاً غادراً وجباناً. لقد كان العنف في السابق هو الأداة الوحيدة لتغيير أو إسقاط حاكم ظالم أو متجبر أو نظام سياسي فاسد، فلولا العنف لما تمكن الشعب الفرنسي من الإطاحة بـ «لويس السادس عشر» وأقام جمهوريته في القرن الثامن عشر، ونفس الشيء حدث في روسيا عندما أطاحت الثورة البلشفية بالحكم القيصري سنة 1917م. وليس معنى ذلك أن كل ثورة مسلحة كان مصيرها النجاح، فقد شهدت أوروبا انتفاضات شعبية لم تستطع البقاء والصمود في وجه القوات الملكية، كما حدث في هنغاريا وألمانيا في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين. إن السبب الذي دفع بتلك الشعوب إلى هذا النهج العنيف هو أنها لم تكن تملك في ذلك الوقت من وسيلة لتغيير حكامها الظالمين والفاسدين إلا عبر هذا الأسلوب الشديد القسوة، فلا حريات ديمقراطية ولا تداول للسلطة، ولا منظمات سياسية تعمل في العلن، وحتى الفصل بين السلطات الثلاث كان شكلياً؛ حيث كان القضاء تابعاً للسلطة التنفيذية يأتمر بأوامرها، وينفذ ما يطلب منه، فكانت السجون تمتلئ بالمعارضين من شتى التوجهات والتيارات السياسية المختلفة مع النظام الحاكم بموجب أحكام قاسية ظالمة صادرة عن محاكمات صورية. إلا أن التطور الحقوقي الدستوري الذي شهدته أوروبا وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية أتاح للمعارضة السياسية بما فيها الأحزاب «الثورية» حرية العمل والحركة والاشتراك النشط في الحياة السياسية دون قيود، فجعل كثيراً من هذه الأحزاب والقوى السياسية (وخاصة اليسارية) تتخلى عن أسلوب الكفاح العسكري أو الانتفاضة المسلحة كطريقة لتغيير الحكم وتسلم السلطة والقبول بالعمل ضمن اللعبة البرلمانية. ومن ناحية ثانية ترافق ذلك برفض وتحريم الخيار العسكري كنهج أو ممارسة للوصول إلى سدة الحكم وتثبيت ذلك قانونياً، واعتبار أن من يتبنى ذلك يرتكب جرماً يعاقب عليه القانون. وهذا ما عطل وشل من عمل المنظمات الإرهابية اليمينية واليسارية التي آمنت بالعنف كوسيلة وحيدة للنضال، فرغم الشعارات السياسية البراقة الجاذبة للشباب الطامح لتحقيق تغييرات سريعة تزيح عنهم الكآبة والإحباط الناجم عن غياب تداول حقيقي في قيادة البلاد السياسية، إلا أن هذه المنظمات لم تستطع التوسع والانتشار وبناء قواعد جماهيرية تمدهم دون انقطاع بالعناصر المقاتلة وتعوضهم عن قتلاهم أو المعتقلين منهم. وهو ما جعل هذه المنظمات عاجزة على النمو والاستمرارية بعد تعرضها لضربات البوليس المتلاحقة. وقد ساعد وجود القوانين الحامية لحقوق الإنسان والحافظة لحقوق المعتقل والتعامل معهم كمواطنين ارتكبوا جرماً، في تخلي بعض قادتهم عن أفكارهم الإرهابية، واختار بعضهم العودة للعمل السياسي الشرعي السلمي حينما استوفوا محكومياتهم التي صدرت بحقهم في ظل محاكمات علنية وعادلة لم تنتقص من حقوقهم الدستورية رغم الجرائم التي ارتكبوها. إن وجود قانون جنائي صريح وواضح ومعلن يحدد مفهوم الفعل الإرهابي كعمل إجرامي يعد من المقومات الأساسية التي لا غنى عنها لمكافحة الإرهاب وملاحقة الإرهابيين. فالتعريف بالجريمة وتحديد أركانها ومستوياتها ودرجاتها والعقوبات التي تطال كل درجة منها، دون خلطها بالنشاطات السياسية السلمية المعارضة، تساعد ليس فقط في تعريف الناس بهذا النوع من الجرائم والعقوبات التي ستطال مرتكبيها -الذي هو حق من حقوقهم-، وإنما أيضاً في توعية الناس بخطورة هذا النوع من الجرائم ومقدار الدمار والضرر الذي يلحق بكافة مكونات المجتمع وبالسلم الاجتماعي وإعاقتها للتطور الطبيعي للمجتمع، ومن تنامي الخسائر المتعددة الأوجه الناجمة عن تسخير كثير من طاقات البلاد لمحاربة هذه الجرائم ومحاصرتها. كما أن السماح لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية بمراقبة تنفيذ الطرق المتبعة في ملاحقة الإرهابيين والتحقيق مع الموقوفين منهم، وفي توفير المحاكمات العادلة التي لا يُبخس ولا يُغبن فيها حقوق المتهم، وعدم النيل من مجموعة الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، تترك تأثيرها الفعال في محاصرة الإرهابيين ومنع التعاطف معهم كمرتكبين لجرم كبير.