ليس هناك إجماع بين مختلف النُّخَب الثقافية والسياسية والعامة كالإجماع على أن سرّ تذيلنا قائمة الأمم هي "نكبة فلسطين"، نكبة أوجعت كل عربي مسلم، حين رفع اليهود عَلَم ما تُعرَف بـ"إسرائيل"، وأعلنوا دولتهم المزعومة مُقسِّمين أمتنا العربية والإسلامية إلى نصفين. عشنا بعدها أكثر من خمسين عاماً نتنقل بين الأيديولوجيات لاسترجاع أرضنا واستئصال الورم الإسرائيلي واجتثاث الاحتلال، جربنا القومية الناصرية، فأصابتنا نكبة 67، لَحِقنا بالفدائيين الفلسطينيين، فقُمِعنا بحكم العسكر والانقلابات، ذهبنا إلى "إسلامية" الخميني الإيرانية، فصُعِقنا بمتاجرتهم بالقضية، تشرذمنا، كل يخرج ببضاعته إلى الغرب لأخذ حقه، فاستفرد الذئب بنا، ما بقي إلا انطلاق قطار "السلفية الجهادية" نحو أفغانستان لقتال الاحتلال الشيوعي، فنجّينا العالم من شموليتها، ومن هنا أفرزت هذه الأحداث التي كانت انطلاقتها نكبة فلسطين سيولة حركية وفكرية خارج إطار الدولة القومية - الوطنية الحديثة. باتت مساحات سيطرة وحضور الدولة في حالة اختزالية يوماً بعد يوم، مع تنامي متسارع لحضور المنطق "القوة" الميليشياوي بمختلف تنوعاته وأنماطه، حتى انتهى الأمر بولادة تاريخ جديد، فُصِل ما كان قبله وما صار بعده بطريقة التعامل مع منطقتنا الشرق أوسطية، تاريخ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، أعطى هذا الحدث دفعة هائلة لـ"السلفية الجهادية" ليحييها بعد غرقها في محاربة الحكومات العربية، "العدو القريب" حسب وصفهم؛ ليلتحق بها عشرات الآلاف من الشباب المسلم العربي، واضعين أملهم فيها لاسترجاع الحقوق المسلوبة. بدأت منذ تلك الفترة إرهاصات صراع فكري جدي بين استراتيجية "الإخوان المسلمين" و"السلفية الجهادية"، كانت الأخيرة دائماً تستهزئ بفكر الإخوان السلمي لتحقيق حلم "الخلافة". استراتيجية تشكيل أحزاب في مختلف الدول العربية والإسلامية للوصول إلى السلطة حكومات متناغمة ومتجانسة وتحقيق حلم الوحدة العربية والإسلامية، كانت حجة "السلفية الجهادية" أن حكم العسكر يقف في وجه طموحات الإخوان، فإن وصلوا إلى الحكم بعد تدرجهم السياسي في الانتخابات، فلن يقبل بهم العسكر فيطيح بحكمهم، وهذا فعلاً ما حصل في الجزائر ابتداءً، ثم ضُيِّق عليهم في كثير من البلدان، أهمها في مصر، أتى ما يُعرَف بـ"الربيع العربي" حتى يُنعِش فكر الإخوان بإمكانية الوصول إلى السلطة من خلال شعارات الشعوب المطالبة بالحرية والديمقراطية لإزاحة الديكتاتورية. وبعد نجاح الإخوان في معظم الحكومات التي مارست العملية الديمقراطية، خرج كثير من علماء السلفية (الوسطيون منهم) عن صف تحريم الانخراط بالعملية الانتخابية، ليبيحوها كضرورة وِفق قاعدة فقهية "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، واعتبروا وصول الإخوان إلى الحكم إنجازاً من الممكن أن يحقق حلم الشعوب العربية والإسلامية. هنا بَرز الصراع بطريقة عملاتية، صراع بين "السلفية الجهادية" التي تتسيد الساحة الشامية والعراقية، والفكر الإخواني الذي ترأس حكومات مصر وتركيا وتونس والمغرب، "السلفية الجهادية" تعتقد أن إزاحة حكم الطاغوت يتم عبر استخدام "القوة"؛ لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها المستبد، أما حركة الإخوان تبقي على موقفها باستخدام "المشروعية" والسلمية كلغة يتقبلها الغرب ولا تُكلِّف الشعوب حروباً شرسة، أصبح الصراع فكرياً بين "القوة" و"المشروعية"، ترتب على استخدام "القوة" في الساحة العراقية والسورية حروب أحدثت دماراً هائلاً يوصف بدمار الحربين العالميتين، أيضاً خرج من الساحة فصائل راديكالية استخدمت لغة "الوحشية" ضد التدخل الإيراني وميليشياته، فضلاً عن استخدامها ضد أبناء طائفتهم أيضاً، أشد هذه الفصائل راديكالياً تنظيم "الدولة الإسلامية". في بادئ ذي الأمر، كانت حجة الإخوان أقوى وأصلب، تركيا مثال الحكم الناجح، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، ومصر بدأت حينها تحذو حذوها، وكذلك تونس والمغرب، حتى انقلب العسكر على "الشرعية" في مصر، هنا خرج منظّرو "السلفية الجهادية"؛ ليثبتوا لخصومهم من الإخوان الذين باتوا في السجون المصرية صحة استراتيجيتهم ونهجهم. مجزرة رابعة الأكثر دموية في تاريخ مصر الحديث محطة من المحطات التي أعطت السلفية الجهادية"دفعة جديدة، دفعت الكثير من الشباب المصري إلى الاعتقاد أن لغة "القوة" هي الأنسب ضد الديكتاتوريين، حتى إن مؤشر عدم الاستقرار بعد المجزرة أخذ منحى تصاعدياً، خصوصاً في سيناء؛ لهذا السبب ربط بعض منظري حركة الإخوان العنف الحاصل في سيناء بالانقلاب العسكري، اتخذها العسكر وبخبث دعاية لربط العنف بالإخوان، علماً أن الربط الموضوعي يجب أن يكون بين الانقلاب على الشرعية بالعنف الحاصل نتيجته.. من خلال وجهة نظر الغرب، وبعد أحداث 11 سبتمبر، اتفقت مراكز الأبحاث على أن الحل لكبح جماح الإرهاب والتطرف يكون عبر دمقرطة العالم العربي والحرية، الغرب تعاطى مع الأمر بحذر، خشي من وصول "الإسلاميين" المتمثلين بـ"الإخوان المسلمين". أخذ عهداً منهم بالتزام تداول السلطة، هذا ما حصل بالطبع من خلال الانخراط بعملية ديمقراطية شفافة، ومن ثم عدم تغيير النظام، تونس المثال الأفضل لتداول السلطة، لكن الدعاية الإعلامية وممارسات العسكر باللعب على وتر الطائفية ولغة حماية الأقليات، استطاعت أن تُقنِع الغرب بـ"إرهاب" الإخوان، فلجأ العسكر إلى ممارسة الإرهاب لإثبات إرهاب الإخوان، إنها رابعة. لغة "رابعة "أصبحت لغة معولمة في البلاد عند العسكر التي يصل فيها الإخوان" للحكم، بدأ استخدامها في الجزائر، مروراً بمصر، وليس انتهاءً بتركيا عبر انقلاب فشل بسواعد الأتراك الذين تعلموا الدرس من "رابعة"، وسيستمر الصراع بين لغة "القوة" ولغة "المشروعية"، حتى نرى المنتصر على الحلبة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.